الفصل الثاني: تطور الذكاء الاصطناعي وظهور هندسة التوجيه
1. البدايات الأولى للذكاء الاصطناعي
لكي نفهم كيف نشأت هندسة التوجيه كمهارة حديثة، لا بد أن نعود قليلًا إلى الوراء ونتأمل رحلة تطور الذكاء الاصطناعي منذ بداياته.
بدأت فكرة الذكاء الاصطناعي في خمسينيات القرن الماضي، عندما حلم العلماء ببناء آلات قادرة على “التفكير”. في عام 1956، اجتمع عدد من الباحثين في “مؤتمر دارتموث”، وكان ذلك الحدث هو البداية الرسمية لمجال الذكاء الاصطناعي.
في تلك الفترة، كانت الآمال كبيرة، لكن الإمكانيات التقنية ضعيفة. استغرقت الحواسيب وقتًا طويلًا لمعالجة أبسط العمليات، وكان الذكاء الاصطناعي يقتصر على ألعاب بسيطة أو قواعد منطقية.
مرت السنوات، وتعرض هذا المجال لفترات من التراجع (سُميت بـ “شتاء الذكاء الاصطناعي”) بسبب التوقعات غير الواقعية. لكن في كل مرة كانت هناك طفرة تعيده للحياة — خصوصًا مع تطور الحوسبة، وظهور الإنترنت، وازدهار البيانات.
2. ثورة البيانات وتعلم الآلة
في العقدين الأخيرين، بدأت البيانات تتدفق بكميات هائلة عبر الإنترنت، ومعها ظهرت تقنيات جديدة مثل تعلم الآلة (Machine Learning)، التي سمحت للحواسيب أن “تتعلم” من البيانات دون أن تتم برمجتها مباشرة.
تعلم الآلة غيّر قواعد اللعبة، لأنه مهد الطريق لنماذج يمكنها التعلم والتنبؤ. ثم تطور هذا المجال بسرعة إلى ما يُعرف اليوم بـ:
- التعلم العميق (Deep Learning)
- الشبكات العصبية الاصطناعية (Neural Networks)
- النماذج اللغوية الضخمة (Large Language Models – LLMs)
وهنا تحديدًا بدأت تظهر فكرة التفاعل البشري مع الذكاء الاصطناعي بشكل مباشر — ليس من خلال البرمجة، بل من خلال اللغة.
3. ولادة النماذج اللغوية الكبيرة
ظهرت نماذج لغوية مثل:
- GPT من OpenAI
- BERT من Google
- Claude من Anthropic
- Gemini من Google DeepMind
- Mistral، Falcon، Qwen وغيرهم…
وكلها نماذج مدربة على مليارات الجمل والمقالات والبيانات من الإنترنت، وتستطيع:
- توليد نصوص كاملة.
- فهم الأسئلة.
- كتابة أكواد.
- تقديم حلول.
- التفاعل مع البشر بلغة طبيعية.
مع ازدياد قوة هذه النماذج، لم يعد التحدي في “ما تستطيع الآلة فعله”، بل في “كيف نطلب منها ذلك؟”
وهنا بالضبط نشأت هندسة التوجيه.
4. من البرمجة إلى التوجيه
في السابق، كان التفاعل مع الآلة يتم عبر الكود والتعليمات البرمجية. أما الآن، فيمكنك أن تطلب من النموذج:
“اكتب لي مقدمة لمقال عن الصحة النفسية بلغة بسيطة وملهمة.”
وسيفهم النموذج، ويكتب بناءً على الطلب.
لكن لاحظ: إذا غيرت طريقة التوجيه، قد تتغير النتيجة جذريًا.
وهنا اكتشف الناس أن:
- نفس النموذج يمكنه أن يقدم نتائج سيئة أو مذهلة، بناءً على طريقة التوجيه.
- كل كلمة تضعها في التوجيه لها تأثير مباشر على النتيجة.
- تحسين النتائج لا يعني تغيير النموذج، بل تحسين التوجيه.
وهكذا ظهر الطلب المتزايد على محترفين يعرفون كيف يتعاملون مع النماذج عبر اللغة — ليس ككتّاب فقط، بل كمهندسين يفهمون كيف “يصممون” توجيهًا فعالًا.
5. من هو مهندس التوجيه؟
مهندس التوجيه هو شخص يُتقن:
- فهم قدرات النموذج وحدوده.
- استخدام اللغة بطريقة استراتيجية.
- تحليل النتائج وتعديل التوجيهات لتحسينها.
- تخصيص التوجيه حسب السياق، والجمهور، والناتج المرغوب.
- الاستفادة من أدوات داعمة (مثل أدوات التكرار، التصنيف، التقييم).
وهذه المهارة أصبحت مطلوبة في:
- الشركات الناشئة التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
- فرق المحتوى، التسويق، البرمجة، والتعليم.
- صناعة أدوات ومنتجات مدعومة بـAI.
- التدريب على استخدام الذكاء الاصطناعي بفعالية.
6. لماذا ظهرت هندسة التوجيه الآن فقط؟
لأن الذكاء الاصطناعي لم يكن “قابلًا للتفاعل” من قبل.
- في الماضي: الذكاء الاصطناعي كان متخصصًا في مهام ضيقة جدًا، ولا يفهم اللغة البشرية المعقدة.
- الآن: يمكننا الحديث مع النماذج كما نتحدث مع البشر. ويمكنها أن تتفاعل معنا بإبداع.
لكن التفاعل البشري الناجح مع هذه النماذج يتطلب “لغة دقيقة” — وهنا ظهرت الحاجة لـ “هندسة” في التفاعل، وليست مجرد دردشة.
7. أهمية هندسة التوجيه في العالم اليوم
في عام 2023، وصفت مجلات تقنية عالمية مثل Forbes وTechCrunch هندسة التوجيه بأنها:
“اللغة الجديدة التي تحكم التفاعل مع الذكاء الاصطناعي.”
وفي تقارير LinkedIn وIndeed، ظهرت وظائف مثل:
- AI Prompt Engineer
- Conversational Designer
- AI Instruction Specialist
ومع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل التعليم، البرمجة، التصميم، التسويق، الطب، والصحافة، أصبحت هذه المهارة حتمية لمن يريد أن يواكب العصر.
✅ خلاصة الفصل الثاني:
- تطورت نماذج الذكاء الاصطناعي من أدوات محدودة إلى كيانات لغوية قادرة على الفهم والإبداع.
- ظهرت هندسة التوجيه نتيجة حاجة البشر للتفاعل بذكاء مع هذه النماذج.
- أصبحت هندسة التوجيه مهارة رئيسية في عالم الذكاء الاصطناعي، وتحمل مستقبلًا مهنيًا واعدًا.
- من لا يُتقن هندسة التوجيه في المستقبل، سيكون كمن لا يعرف استخدام الحاسوب في بداية الألفية.
الفصل الثالث؟ سيكون حول أنواع نماذج الذكاء الاصطناعي وأفضل استخداماتها.