```yaml

layout: post title: “استكشاف الإنترنت المظلم: العالم الخفي للشبكة” title_eng: “Exploring the Dark Web: The Hidden World of the Network” date: 2025-08-05 categories: [تقنية, أمن سيبراني] —

لكل باب رقم، ولكل زقاق اسم، ولكل منزل عنوان. والعنوان هو الغاية من المخطط. ليس عالمنا الواقعي فقط هو الذي يعمل بهذه الطريقة، فالعالم الافتراضي يعمل مثله تمامًا. كل حاسوب مرتبط بالشبكة له عنوان إلكتروني، وكل موقع له عنوان، له باب، وللباب مفتاح. الطريق الذي تسلكه يحتوي على لافتات لتعرف إلى أين تتجه، وقبل أن تفتح أي نافذة، يجب أن تكون على دراية بما يوجد خلفها.

لكن، هناك جزء من هذا العالم لا يعمل بهذه الطريقة. العناوين فيه غير معروفة، والطرق بلا أسماء. الأبواب التي سنفتحها، لا أحد يعرف ما يختبئ خلفها. إذا كنت تظن أن الإنترنت بأكمله بين يديك لأنك تستطيع الوصول إلى جوجل، فيسبوك، ويوتيوب بمجرد نقرة، فقد جئت لأقول لك أنك مخطئ.

إذا اعتبرنا أن العالم الرقمي مثل البحر، فأنت لم تضع قدمك في الماء بعد، لأن كل ما تعرفه يمثل 4% فقط من هذا العالم. فأين تختبئ الـ 96% المتبقية؟ إنها توجد تحت العديد من الطبقات التي لا يستطيع الوصول إليها حتى أقوى محركات البحث. طبقة تلو الأخرى، إذا تجاوزت واحدة، ستظهر لك أخرى، تمامًا مثل لعبة. وبينما أنت تنزل، يتغير كل شيء ويزداد الأمر صعوبة، حتى تصل إلى مكان يسمى الويب العميق.

وهذا ليس هو الحد. استمر في النزول طبقة تلو الأخرى حتى تصل إلى مكان غريب. هذه الطبقة بلا قانون، بلا رقابة، بلا أخلاق، وبلا رحمة. عالم يمكننا أن نصفه بأنه عالم الظلام. أبواب كثيرة بجانبك ولكنك لا تراها، كأنك في متاهة. وحتى لو وجدتها وعرفت كيف تصل إليها، هل تملك مفاتيحها؟ هل تعرف ما يوجد خلفها؟

هذا المكان هو بمثابة عش للأنشطة المظلمة، وبالنسبة لبعض الناس، هو جنة لأنه يمكنهم الاختباء فيها، سواء كانوا مجرمين، جواسيس، مهربي مخدرات، أو حتى تجار بشر. كل هذا مجموع في مكان واحد، وهذا المكان اسمه الويب المظلم (Dark Web)، وهو السبب الذي دفعك لقراءة هذا المقال. لهذا السبب، سنحاول اليوم اكتشاف هذا العالم.

مستويات الإنترنت الثلاثة

يجب أن نفهم أن الإنترنت مقسم إلى ثلاثة مستويات رئيسية:

1. الويب السطحي (Surface Web)

هذا المستوى يحتوي على كل ما نستخدمه يوميًا، مثل يوتيوب، انستغرام، فيسبوك، ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام. من السهل العثور على أي معلومة في هذه الطبقة لأن محركات البحث مثل جوجل تقوم بفهرسة كل شيء تقريبًا. في كل ثانية:

هنا يظهر أن هذا المحتوى كبير جدًا ويستمر في النمو، حيث تضاف معلومات هائلة كل ثانية. ما نريده، نجده في هذا المستوى. لكن ما لا يمكننا العثور عليه هنا هو معلومات خاصة مثل الحساب البنكي لشخص ما أو رسائله في البريد الإلكتروني، لأن هذه المعلومات محمية بكلمات مرور.

2. الويب العميق (Deep Web)

الويب العميق هو المحتوى الذي لا تتم فهرسته في محركات البحث مثل جوجل. أي شيء لا تجده في جوجل، يمكن اعتباره ضمن الإنترنت العميق.

يمثل الويب العميق حوالي 96% من إجمالي المحتوى الموجود على الإنترنت. حتى لو قضيت 100 عام في تصفحه يوميًا، لن تتمكن من رؤية محتواه بالكامل.

3. الويب المظلم (Dark Web)

خلف الويب العميق، نصل إلى مكان أكثر عمقًا. إنه جزء صغير جدًا حيث يكون كل شيء مشفرًا للغاية، ولا يترك أي أثر لعنوان IP الخاص بك. من الصعب تتبع أي شخص هنا، ويدخل المستخدمون إليه باستخدام برامج خاصة لإخفاء هوياتهم. في هذا المكان، كل شيء ممكن.

كيف يعمل هذا العالم الخفي؟

قد تبدأ العديد من الأسئلة في الظهور في ذهنك، مثل: كيف يعمل كل هذا؟ كيف يمكن لشخص أن يخفي نفسه في مكان عام مثل الإنترنت؟

لفهم ذلك، يجب أن نعرف أن أي نشاط تقوم به على الإنترنت يمكن تتبعه. المواقع والتطبيقات تتعقب تحركاتك وتجمع بيانات عنك: موقعك، ما يعجبك وما لا يعجبك. ثم تبيع هذه البيانات للشركات التي ترغب في بيع منتجاتها لك. هذا الأمر ليس جديدًا ولا سريًا.

الإنترنت منذ تأسيسه لم يكن مصممًا لإخفاء الهوية. وقد لاحظت الحكومة الأمريكية هذا الأمر منذ أكثر من 30 عامًا.

ولادة مشروع “تور” (Tor)

في عام 1995، بدأت البحرية الأمريكية في البحث عن وسيلة لحماية اتصالات جواسيسها على الإنترنت، الذي كان قد بدأ للتو في الانتشار بين عامة الناس. قام ثلاثة باحثين في مختبر أبحاث البحرية الأمريكية بابتكار طريقة لإخفاء الرسائل عبر عدة طبقات من التشفير، الواحدة فوق الأخرى، حتى لا يتمكن أحد من معرفة مصدر الرسالة أو وجهتها. أطلقوا على هذه التقنية اسم “The Onion Routing” (توجيه البصلة).

لماذا البصلة؟ في هذه التقنية، تمر الرسالة عبر عدة “عُقد” (Nodes)، وكل عقدة تزيل طبقة واحدة من التشفير، تمامًا مثلما تقشر بصلة. عندما تزيل القشرة الأولى، تجد أخرى تحتها، وهكذا. هذا هو مبدأ “توجيه البصلة”.

مع مرور الوقت، أدركوا أن هذه الشبكة أصبحت مليئة بالعملاء والجواسيس فقط. هذا يعني أن أي شخص تتواصل معه عبر هذه الشبكة هو بنسبة 99% عميل لإحدى الوكالات الاستخباراتية (FBI, NSA, CIA). لهذا السبب، اضطروا إلى فتح المشروع لعامة الناس ليختلط المدنيون بالعملاء، مما يجعل التمييز بينهم صعبًا.

في عام 2002، تم إطلاق المشروع للعلن تحت اسم Tor (وهي الحروف الأولى من The Onion Routing)، وأصبح مفتوح المصدر، مما يعني أن أي شخص يمكنه المساهمة في تطويره. هذا النوع من الشفافية جذب العديد من الصحفيين، والنشطاء، ومعارضي الأنظمة الديكتاتورية لاستخدام الشبكة، حيث وجدوا فيها ملجأً من التتبع والرقابة. وهنا كانت ولادة الويب المظلم.

في عام 2004، صدر الإصدار 0.2 من Tor، وجلب معه مفهوم “الخدمات الخفية”، وهي المواقع التي تنتهي بنطاق .onion. الآن، لم يعد المستخدم مجهول الهوية فحسب، بل أصبح الخادم (السيرفر) الذي يستضيف الموقع مخفيًا أيضًا. كانت هذه بداية المنتديات السرية، والأسواق التجريبية، والمكتبات الرقمية في الويب المظلم.

الفوضى الحقيقية

بدأت الفوضى الحقيقية في عام 2011 مع ظهور موقع يسمى “Silk Road” (طريق الحرير)، والذي كان بمثابة سوق سوداء.

في هذا الموقع، كان يمكنك شراء العديد من الخدمات والأشياء غير القانونية مثل المخدرات، والأسلحة، والبطاقات المصرفية المسروقة. حتى القتلة المأجورين كانوا يعرضون خدماتهم على الموقع. ولتجنب التتبع من خلال عمليات الدفع، كان كل شيء يتم باستخدام عملة البيتكوين (Bitcoin).

لعب موقع “Silk Road” دورًا مهمًا في صعود البيتكوين، وكان معروفًا بشكل خاص ببيع المخدرات والأسلحة. خلال عامين، حقق الموقع أرباحًا تجاوزت 9.5 مليون بيتكوين. إذا حسبنا قيمتها بسعر البيتكوين اليوم، فإنها ستتجاوز تريليون دولار.

في عام 2013، أغلق مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) الموقع واعتقل مؤسسه، روس أولبريشت. حُكم عليه بالسجن المؤبد مرتين بالإضافة إلى 40 عامًا، مع حرمانه من حق الإفراج المشروط. بعد إغلاق “Silk Road”، ظهر “Silk Road 2.0” ثم “Silk Road 3.0”. كلما أغلق الـ FBI موقعًا واعتقل صاحبه، يظهر موقع آخر. معظم الذين يتم القبض عليهم لا تتجاوز أحكامهم 10 سنوات، مما يجعل قضية روس أولبريشت فريدة من نوعها وتستحق مقالًا منفصلاً.

أحد أسوأ جوانب الويب المظلم هو استغلال الأطفال. كانت هناك مواقع مثل “Lolita City” و “Playpen” التي تم إغلاقها أيضًا، وكانت تضم أكثر من 200,000 مستخدم يشاركون محتوى مروعًا ونقاشات حول طرق اختطاف الأطفال.

خاتمة

إذا وصلتم إلى هنا، فقد وصلتم إلى نهاية رحلة اليوم. من المفترض أنكم فهمتم أن “تور” ليس مجرد تقنية لإخفاء الهوية، بل هو أسطورة حية ترسم الحدود بين الخوف والحرية، بين جشع السوق السوداء وحلم عالم بلا رقابة. الحرب بين النور والظلام كانت موجودة دائمًا وستبقى. وشبكة “تور” تشبه المرآة التي ترينا الوجه الذي نريد أن نراه: من يبحث عن الحرية سيجدها، ومن يبحث عن شيء آخر سيجده أيضًا.