من التشتت إلى التدفق: دليلك لحياة هادفة وواعية

أصدقائي، أوقاتكم بخير دائمًا. هذا المقال هو عبارة عن مجموعة مواضيع، والدافع لكتابته هو حالة عشتها من التشتت. الإنسان الذي لديه طموحات وأهداف عادةً ما ينغمس فيها، لكن المشكلة تكمن في كثرة هذه الأهداف والتوجهات والمهام والمسؤوليات المتوقع منك تأديتها. هذا الأمر أعتقد أننا جميعًا نعاني منه، حيث نؤدي دور المدير، والرئيس، وأحيانًا المنفذ، أو الاستشاري والمفكر.

بسبب كثرة هذه المهام وتشتتها، شعرت شخصيًا بالتشتت وبدأت أحس بالانزعاج. كان الحل أن أقرأ وأبحث عن حلول، ووجدته في كلمة واحدة: “فلو” (Flow) أو التدفق. هذا المصطلح سيكون محور تركيزنا اليوم. يتضمن المقال أفكارًا من أكثر من كتاب وموضوع، لكنها كلها تصب في نقطة واحدة: تركيزك في مهمة واضحة أفضل ألف مرة من أي ممارسة تأملية تقوم بها.

مرحبًا بك في حالة “التدفق”

صديقي القارئ وصديقتي القارئة، أهلًا وسهلًا. هل سبق لك أن كنت شديد التركيز ومنغمسًا تمامًا فيما تفعله، حتى أن الساعات مرت عليك كدقائق؟ دون شعور بالجوع أو التشتت، فقط حركة نقية وسلسه، وكأن عقلك واللحظة قد خُلقا لبعضهما البعض.

هذا هو “التدفق” أو “الفلو”، وفقًا لعالم النفس ميهالي تشيك سنت ميهالي. ووفقًا لهذا العالم، التدفق ليس سر الإنجاز فحسب، بل هو سر لتعيش حياة ذات معنى. في هذا المقال، سنتعمق في سيكولوجية التجربة المثلى، كيف يحدث التدفق، ولماذا هو مهم، وكيف سيرفع ثقتك بنفسك بشكل كبير، ويخفف من توترك تجاه القلق الاجتماعي والخجل، بل وكيف قد يطيل عمرك.

إذا شعرتم يومًا بالجمود، التشتت، والإرهاق، فهذا المقال قد يغير حياتكم إلى الأبد، وبالتأكيد سيغير رؤيتكم للعالم.

الندم الأكبر على فراش الموت

هل تعرف ما هو الندم الأول للأشخاص على فراش الموت؟ بحسب ممرضة أسترالية عملت في رعاية المرضى في أسابيعهم الأخيرة، كان المحتضرون لديهم ندم كبير واحد: أنهم عاشوا حياة شخص آخر، ولم تكن لديهم الشجاعة لفعل ما يريدون دون التأثر بنظرة الآخرين وحكمهم عليهم.

أنت يا من تقرأ الآن، سواء كان عمرك 18، 30، أو حتى 60، ما زال لديك الوقت كي لا تشعر بهذا الندم. لديك الوقت للتخلص من العذر الطويل والمعقد الذي منعك من فعل الشيء الذي ترغب به منذ زمن. الكتب التي سنستعرضها اليوم ستكون صادقة معك، ونأمل أنك بعد قراءة هذا المقال، ستستوعب أهمية إنشاء خطة تساعدك على أن تكون الشخص الذي من المفترض أن تكونه.

كتاب “تبًا لهذا الخجل” (Screw Being Shy)

نبدأ بكتاب “تبًا لهذا الخجل” للكاتب مارك ماتري. في أول سطر من الكتاب، قال: “لا أعرف ما الذي حدث، لكنني تخلصت من قلقي الاجتماعي منذ أن وصلت للتاسعة عشرة من عمري. تحدثت لشخص غريب، أو امرأة بالتحديد، لأول مرة وسمعت صوتي في كلامي دون أن أصاب بالرعب”.

قبل ذلك اليوم، كان يضطر للذهاب إلى المطعم وحيدًا، وعقله يغرق في دوامة من الأفكار المقلقة التي تقنعه بألا يفتح فمه. كان عقله ووجوده متنافسين، كل منهما يريد قمعه وليس تقديره. يقول مارك: “نعم، عقلي كان يحاول قمعي، يحاول إخباري بأنني لا قيمة لي في هذا العالم، ولا أحد يريد سماع حديثي”.

الغريب في الأمر، يقول مارك، أن هذا العقل نفسه استسلم اليوم، حيث أصبح واحدًا من أكبر مقدمي البودكاست في العالم. “أنا اليوم أتقاضى أجرًا مقابل التحدث على المسرح أمام الآلاف، وأقدم حلولًا يستفيد منها أكثر من 30 مليون شخص”.

لذلك، أطلب منك أن تقرأ بعناية. أسوأ شيء تفعله مع هذا المقال هو أن تقرأه كرواية للتسلية. إنه مخصص للتطبيق العملي. لو كنت شخصًا يعاني من القلق الاجتماعي، أو تفكر ألف مرة في ردة فعل الناس على ما ستقوله أو تفعله، فهذا المقال لك.

قصة مارك مع الخجل

ولد مارك عام 1997 في مدينة ماساتشوستس. والداه لم يجيدا اللغة الإنجليزية، وكانت حالتهما المادية بسيطة. يقول: “لكنني لم أفكر قط في أننا فقراء، وكأنني أردد كلمات أغنية دولي بارتن: المرء فقط يكون فقيرًا إذا أراد أن يشعر بذلك”.

لكن هذا الطفل دخل المدرسة وبدأ يرى الاختلافات مع الطلاب الآخرين: لون الجلد، العرق، اللكنة. وللأسف، تحول تدريجيًا إلى كائن خجول. كان يشعر أنه مختلف عن الجميع. يقول مارك: “لا أريد المبالغة في قصتي، لأن هناك أشخاصًا أظهروا لطفًا استثنائيًا، لكن الغالبية تعاملوا معي على أنني كائن مختلف، وأظهروا سلوكًا عدوانيًا تجاهي”.

تحولت عزلته إلى خجل شديد، ثم قلق اجتماعي حاد. يصف مارك هذا القلق: “كلما دخلت غرفة، كان عقلي يقول لي: انظر إلى الأسفل، أنت لا تشبه أي شخص هنا، لن تتأقلم. ابحث عن مكان آمن في آخر الفصل”.

مع هذا الوضع النفسي المؤلم، بدأت تظهر لديه مشاكل صحية مزمنة: مشاكل في المناعة الذاتية، الربو، مشاكل في الجلد والمعدة، أرق، وعدم القدرة على التركيز. كل هذا بسبب القلق الاجتماعي. استمر التنمر يدفعه إلى دوامة العزلة، حيث كان يعيش في فقاعته الخاصة، لا يريد أن يؤذي أحدًا ولا أن يؤذيه أحد. ورغم ذلك، تعرض للتنمر بسبب ملامحه الشرق أوسطية، ونُعت بالإرهابي، وتعرض لمواجهات جسدية وضرب.

كانت الكارثة أنه لا يستطيع تغيير الآخرين أو تغيير ملامحه. هذا زاد من قلقه، حتى أصبح معتادًا على أن يجد ورقة معلقة على طاولته تقول: “سنقتلك أيها الزنجي”. وحتى عندما كُشف الطالب الذي وضع الورقة وعوقب، كان مارك قد كوّن قناعة بأنه فاشل ولا يستطيع التواصل اجتماعيًا.

لماذا نشعر بالقلق الاجتماعي؟

السؤال المهم هو: كيف خرج مارك من هذا الحال؟ يقول مارك إنه أدرك أننا لم نتعلم شيئًا عن المهارات الاجتماعية. النظام التعليمي يعلمنا الجغرافيا والتمثيل الضوئي، لكن المهارات الاجتماعية لا نتعلمها. لا نتعلم كيفية التعامل مع مشاعرنا أو التعبير عن أنفسنا أمام الناس.

فإذا لم نتعلم هذه المهارات، ولم يكن مجتمعنا العائلي واعيًا بما يكفي ليعلمنا إياها، فمن الطبيعي أن يصيبنا القلق الاجتماعي. إذا كنت تشعر أن مهاراتك الاجتماعية ليست على المستوى الأمثل، فلا تحاسب نفسك على شيء لم تتعلمه. المسألة ليست مشكلة فيك، بل هي مهارة لم تكتسبها بعد.

فئات الخجل الأربع

تذكر أخصائية علم النفس السريري، ألين هيندريكسن، مؤلفة كتاب “كيف تكون على سجيتك”، أن الخجل أو القلق الاجتماعي هو “شعور بوجود خلل أو نقص فينا، وأنه ما لم نجتهد في إخفاء هذا النقص المتخيل، فسوف نُكشف، ويُحكم علينا، أو نُرفض”.

لقد وضعت ألين أربع فئات قد نخجل منها:

  1. المظهر الجسدي: النحافة أو السمنة، الطول أو القصر، شكل الأنف، أو حتى قصة الشعر والملابس.
  2. علامات الخجل نفسها: نخجل من ارتعاش أيدينا، أو التعرق، أو احمرار الوجه عند التحدث.
  3. عدم امتلاك المهارات الاجتماعية: الاعتقاد بأن كلامنا ممل، أو أن طريقتنا في السرد غير مريحة.
  4. الشخصية نفسها: الاعتقاد بأن شخصيتنا ككل غير جذابة أو مزعجة.

تقول ألين إن الفئتين الأخيرتين (المهارات الاجتماعية والشخصية) هما الأكثر تسببًا في القلق لدى البشر.

قوة التواصل غير اللفظي

هل تعلم أن معظم تواصلنا مع الناس لا علاقة له بالكلمات؟ أكثر من 50% من التواصل يتم عبر نبرة الصوت، لغة الجسد، وتعابير الوجه. البشر يفهمون بعضهم البعض من خلال الكلمات، لكن لا تتوقع أن اللغة هي السر الوحيد. كيف تظهر للناس هو السؤال المهم.

الشخص الذي فقدت التواصل معه، قد لا يكون السبب شيئًا قلته، بل مؤشرًا جسديًا أو صوتيًا خاطئًا. لذلك، تعلمك المزيد عن لغة الجسد سيجعلك تعرف ما يقوله وجه الشخص الذي أمامك، وستعرف المزيد عن نفسك أيضًا.

نصائح عملية للغة جسد واثقة

أول نصيحة هي العمل على مهارات الاتصال غير اللفظي. إليك خطوات بسيطة يمكنك البدء بها:

  1. وضعية الجسم والرقبة: تخيل أن خيطًا يشد رأسك للأعلى باستمرار. ارفع رأسك، وافرد كتفيك للخلف قليلًا، كأنك بطل خارق.
  2. اليدان: حاول أن تتحدث ويداك وكفوفك مفتوحة. لا تقبضهما. دعهما تتحركان بسلاسة وطبيعية. عند التحدث أمام الناس، لا تضع يديك على وسطك أو في جيبك.
  3. الجلوس: وأنت جالس، لا تحرك ساقك بعنف. اترك مسافة بسيطة بين شفتيك.
  4. تعابير الوجه: انتبه لتعابير وجهك. هل أنت مبتسم دون تكلف أم عابس طوال الوقت؟
  5. التنفس والصوت: تعلم أن تأخذ أنفاسًا عميقة وبطيئة. تدرب على التحدث بوضوح. أسهل طريقة هي قراءة كتاب بصوت عالٍ.

المنطقة التي تسكت النقد الذاتي في الدماغ

هل سمعت عن “القشرة الجبهية الأمامية الظهرية الجانبية”؟ هذه المنطقة في الدماغ، كما يقول عالم الأعصاب تشارلز ليمب، مسؤولة عن مراقبة الذات والنقد الذاتي. عندما تهدأ كهرباء هذه المنطقة، يخف نقدك لذاتك، وينخفض صوت الشك بداخلك.

في عام 2008، استخدم الدكتور تشارلز الرنين المغناطيسي الوظيفي لفحص أدمغة عازفي الجاز الارتجاليين في لحظة “التدفق”. وجد أن هذه القشرة تتوقف تمامًا عن العمل في ذروة الأداء. لهذا السبب، قد يضيع لاعبون عظماء مثل ميسي أو كريستيانو رونالدو ضربات جزاء. في لحظة التوقف قبل التسديد، يفكر اللاعب في ألف شيء، ويتشتت تركيزه، ويفقد حالة “الفلو”.

العوامل النفسية الأربعة للوصول إلى “الفلو”

  1. أهداف واضحة ومحددة.
  2. ردود فعل فورية: وهي القدرة على حل المشاكل التي تعترضك بسرعة، وتأتي بالتدريب والتكرار.
  3. نسبة التحدي إلى المهارة: يجب أن تكون المهمة في منطقة وسطى بين الملل الشديد (سهلة جدًا) والقلق العالي (صعبة جدًا). هذا ما يسمى بـ “منحنى التوتر”. يجب أن تكون في المنتصف، حيث يكون التحدي مناسبًا لمهاراتك، مما يبقيك متحفزًا.
  4. تجارب جديدة ومستمرة: ذكر الكاتب مثالًا عن قبيلة “تشو سواب” في كندا، حيث كان زعماء القبيلة يأمرون بالارتحال إلى مكان جديد كل 25 سنة، لخلق تحديات جديدة وإبقاء أفراد القبيلة متحفزين.

تجربة الكهف: كيف ندرك الزمن؟

قبل أن نتحدث عن التجربة، اسأل نفسك: هل ترتدي ساعة؟ قرر الباحث كريستيان كلات أن يجري تجربة على 15 شخصًا (8 رجال و7 نساء) لا يرتدون ساعات. طلب منهم البقاء في كهف في فرنسا لمدة 40 يومًا، معزولين تمامًا عن العالم الخارجي، لا شروق ولا غروب، فقط إضاءة كهربائية.

المفاجأة كانت أن أهل الكهف تعاملوا مع الزمن بطريقة مختلفة تمامًا. عندما انتهت التجربة وأُخرجوا، كانوا مستغربين من إخراجهم مبكرًا، معتقدين أنهم قضوا 32 يومًا فقط، بينما في الحقيقة قضوا 40 يومًا بالتمام والكمال.

التفسير هو أن اليوم بالنسبة لهم كان يمتد إلى 32 ساعة (12 ساعة نوم و20 ساعة يقظة)، لكنهم لم يدركوا ذلك. إحساسهم بالزمن كان داخليًا بحتًا. الوقت مر سريعًا عليهم، وضاعت ثمانية أيام من حياتهم دون أن يشعروا. والسبب هو: الروتين.

الزمن نسبي، والذكريات هي المقياس

ما حدث مع أهل الكهف يحدث معنا جميعًا. الأوقات الجميلة تمر بسرعة، بينما أوقات الخطر أو الملل تبدو طويلة جدًا. هناك نوعان من الزمن:

السطر الأهم هنا هو: الزمن يسير بسرعة شديدة كلما تقدمنا في العمر، أو بطريقة أخرى، أنت تكبر في العمر إذا كان الزمن سريعًا ويتفلت من بين يديك.

عندما كنت طفلًا، كانت الرحلة الواحدة تبدو كعمر كامل، لأن كل شيء كان جديدًا. الطفل يعيش اليوم الواحد كسنة كاملة بسبب كثرة التجارب الجديدة التي يتلقاها. لكننا ككبار، عندما نستقر في وظيفة روتينية، نتحول إلى هامستر يجري في عجلة متشابهة. فجأة، نجد أنفسنا نتحدث عن التقاعد ونتساءل: كيف مرت كل هذه السنين؟

كيف تبطئ الزمن وتعيش حياة أطول؟

المعادلة بسيطة: الزمن مرتبط بالذاكرة والذكريات. كلما خزنت ذكريات أكثر، تباطأ الزمن بالنسبة لك.

يجب أن نتعامل مع الزمن بطريقة استرجاعية (Retrospective)، أي من خلال الذكريات التي خزناها، وليس فقط بالطريقة التزامنية (Prospective) التي تعتمد على عقارب الساعة.

قد يبدو هذا متناقضًا، فالأوقات الجميلة (التي تخلق ذكريات) تمر بسرعة. صحيح أنها تبدو سريعة في لحظتها، لكن عندما تنظر إلى سنة مليئة بالتجارب والذكريات بعد عشر سنوات، ستشعر بأنها كانت طويلة ومليئة بالأحداث. على العكس، سنة روتينية مملة، رغم أنها كانت بطيئة في حينها، ستبدو كلمح البصر عند النظر إليها من المستقبل، لأنها خالية من الذكريات.

استعد روح الطفل داخلك

كلما تقدمنا في العمر، تصبح الدهشة روتينًا، لأن كل شيء يصبح مألوفًا. نتوقف عن البحث عن تجارب غير متوقعة، ونركن إلى منطقة الراحة. هذا يقلل من اعتمادنا على الذاكرة، ويؤدي إلى خمول في منطقة “الحصين” (Hippocampus) في الدماغ، المسؤولة عن الذاكرة.

لتفعيل هذه المنطقة وتمرينها، نحتاج أن نرى أكثر، ونسمع أكثر، ونجرب أكثر. أهل الكهف، بسبب انقطاعهم عن العالم الخارجي، لم تكن لديهم بيانات جديدة لتغذية مركز الذكريات، وهذا ما جعل الزمن يطير منهم.

نصيحتي لي ولك هي: لكي نعيش حياة طويلة وهنية ومليئة بالمعاني، يجب أن نتقن صناعة الذكريات والتجارب الجديدة.

خاتمة

في هذا المقال، انتقلنا من الحديث عن القلق الاجتماعي والخجل، إلى بناء العلاقات، ثم إلى منطقة الدماغ التي تخفف من النقد الذاتي، وأخيرًا إلى مفهوم “الفلو” وعناصره. ورأينا كيف أن التجارب الجديدة تقوي مركز صناعة الذكريات، وكيف أن هذا يجعل حياتنا أطول وأكثر سعادة ومعنى.

إن تنقلي بين هذه الأفكار نفعني كثيرًا في فترة من حياتي شعرت فيها بالتشتت الشديد والتوهان، إلى أن وجدت التوجيه المناسب في الكتب المناسبة.

شارك المقال

أحدث المقالات

CONNECTED
ONLINE: ...
SECURE
00:00:00