مقدمة: الجريمة قبل وبعد الإنترنت
في الماضي، قبل وجود الإنترنت، كانت الجريمة محصورة في الواقع الذي نعيشه. الجريمة المنظمة، أو أي جريمة فردية، مهما حاولت الابتعاد عن الأنظار والاختباء، بقيت بين الناس، مكشوفة ومعرضة للكشف بسبب خطأ أو دليل جنائي.
لكن تلك القصة بدأت تتغير مع ظهور الإنترنت، خاصة وأن التعقب أصبح أكثر صعوبة. بدأت الجرائم الإلكترونية تظهر للعالم: مجرم يتواصل مع آخر في عالم افتراضي دون علم أي جهة حكومية. سبب هذا صدمة كبرى للأمن والحكومات. ولكن مع ذلك، تمكنت الحكومات من مواكبة التغيير وبدأت في مراقبة المجرمين، سواء بزرع جواسيس في المنتديات أو بتعقبهم. لكن كل هذا تغير مع ظهور الويب المظلم.
عندما بدأت المنتديات السرية في بيع الأسلحة والمخدرات، وحتى القتلة المأجورين، لم يكن هناك طريقة لتعقبهم، ببساطة لأنهم مجهولون. حتى لو حاولوا اعتراض الأموال، فلن يتمكنوا من ذلك لأن العملة نفسها مشفرة. كان عدد هذه المنتديات قليلاً وصعب الوصول إليه.
ولكن في يوم من الأيام، جاء شخص وبنى موقعًا يشبه تمامًا أمازون، ولكن ليس لبيع الأشياء العادية. موقع جلب لصاحبه ما يقارب المليار دولار. وهكذا، لكل بداية نهاية. كيف بُنيت إمبراطورية للممنوعات على الإنترنت؟ من أسسها؟ وكيف سقطت؟ سنتعرف على كل هذا في هذا المقال.
المؤسس: روس أولبريشت
روس أولبريشت، الشاب المتفوق والمهذب، درس الفيزياء، وتحديداً المواد البلورية. في بداية حياته، عمل في التجارة مع صديقه في مشروع بسيط لبيع الكتب المستعملة عبر الإنترنت، لكن المشروع لم يدم طويلاً وفشل. أخذ روس بعض الوقت ليسأل نفسه: «كيف يمكنني أن أترك بصمة؟ وكيف يمكنني أن أجعل الحرية حقيقة؟».
ولادة فكرة “طريق الحرير”
بدأت رحلته عندما سمع روس عن شيء يسمى البيتكوين، وهي عملة إلكترونية لا يوجد بنك أو كيان يراقبها. اكتشف متصفح تور (Tor)، الذي كان ولا يزال بوابة إلى الويب المظلم ويخفي هوية المستخدم. من هنا، ولدت الفكرة في رأسه: سوق إلكتروني حر ومخفي، حيث يمكن للناس البيع والشراء دون رقابة حكومية.
صحيح أن جوهر أفكاره قد يبدو إجراميًا، ولكن مع ذلك، كانت لديه قواعد وحدود أخلاقية. على سبيل المثال، كان يمنع بيع الأسلحة والمحتوى المتعلق بالأطفال والعنف. لذا، يمكن القول إنه كان أشبه بمجرم مهذب.
من الفكرة إلى التنفيذ
لم يكن روس يعرف كيفية إنشاء موقع ويب، ولم يكن يفهم في الإلكترونيات، لكن شغفه دفعه للاستمرار. وبالفعل، استمر في تعلم البرمجة حتى تمكن من تصميم موقع ويب كامل من الصفر. ولزيادة الخصوصية، ربط الموقع بمتصفح تور. كانت طريقة الدفع هي البيتكوين لزيادة أمان عملائه.
سرًا، بعد أن أنشأ الموقع، قرر تسميته “طريق الحرير” (Silk Road). لم يكن الاسم عشوائيًا؛ بل كان يعني طريق الحرير، وهو اسم طريق تجاري قديم.
ازدهار الإمبراطورية الرقمية
نشر أول إعلان على الموقع: فطر مهلوس. بطبيعة الحال، من الصعب التعريف بموقع كهذا، حتى في عالم الجريمة. لذلك، بدأ روس في نشر رابط موقعه في منتديات أخرى. جاء أول عميل واشترى. كانت بداية صغيرة، لكنها كانت مؤشراً على ما هو قادم.
بدأت المنتجات في الازدياد؛ أي نوع من الممنوعات يمكنك التفكير فيه: مخدرات، مهدئات، حشيش. بدأ العملاء في الازدياد، وكذلك البائعون الذين بدأوا في دخول الموقع وعرض بضائعهم المحظورة.
كان انتشار الموقع محدودًا حتى جاء موقع “Gawker” ونشر مقالًا عنه، مقال قلب العالم رأسًا على عقب. بدأ الناس يتحدثون، وضجت وسائل الإعلام بالأخبار. فجأة، تحول انتشار الموقع المحدود إلى آلاف المستخدمين والبائعين. كان الناس يشترون كل شيء على الموقع، وهذا ما جعل روس ثريًا بين عشية وضحاها.
آلية العمل
كان تسليم المنتجات يتم عبر البريد، مغلفًا بطريقة محكمة. قد تتساءل لماذا لا ينتبه عمال البريد للطرد؟ ببساطة، إنه طرد مغلق، ولا يحق لأحد الاطلاع على محتواه إلا المالك والمرسل، ما لم يكن هناك اشتباه من الشرطة. كانت طريقة الإرسال بسيطة: يرسل المرسل من مكان عام إلى مكان عام آخر، حتى يستلمه المستلم بهدوء تام. وبالطبع، كان الدفع يتم إلكترونيًا عبر البيتكوين.
بداية النهاية: خطأ واحد فادح
صحيح أن ثروة روس كانت تتزايد، لكن ذلك لم يؤثر على قواعده. كان لا يزال حذرًا، يراقب أي سلوك مشبوه، مثل بيع الأسلحة أو المحتوى العنيف أو المتعلق بالأطفال، وكان يحذفه فورًا.
في هذه الأثناء، كان مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) وإدارة مكافحة المخدرات (DEA) يحاولون معرفة هوية روس، الأمر الذي كان صعبًا للغاية من خلال التعقب الإلكتروني أو مراقبة المدفوعات. لذلك، كان عليهم إيجاد طريقة أفضل.
بدأ التحقيق، وقاموا بعمليات شراء من الموقع، لكنهم لم يصلوا إلى أي شيء بهذه الطريقة. كان روس ذكيًا وماكرًا واتخذ كل احتياطاته، لكن خطأ صغيرًا دمر كل شيء. في بداية إطلاق الموقع، كان روس يروج له في منتديات خاصة مستخدمًا حسابات مزيفة كما لو كان عميلاً، لكنه في إحدى المرات، استخدم بريده الإلكتروني الحقيقي.
بدأ المحققون في البحث عن البريد الإلكتروني ووجدوه بالفعل. بدأت التحقيقات تعطي أملًا. قاموا بتحليل البريد الإلكتروني وطلبوا من جوجل تزويدهم بموقع الحساب، ووجدوه بالفعل. وهكذا بدأ الفصل الأخير في قصة أكبر موقع للممنوعات على الإنترنت.
السقوط: خطة الإيقاع في المكتبة
قاد البريد الإلكتروني إلى شقة في سان فرانسيسكو، وبعد الكثير من المراقبة السرية للشقة، تعرفوا على روس، لكنهم لم يرغبوا في القبض عليه مباشرة. أرادوا الإمساك به مع حاسوبه المحمول، الذي كان كنزًا من المعلومات. أثناء مراقبة سلوك روس، لاحظوا أنه يذهب دائمًا إلى المكتبة العامة عندما يستخدم الموقع، وهنا بدأت ملامح خطة القبض عليه تتشكل.
في أحد الأيام، كان روس جالسًا في المكتبة. فتح الموقع واستمر في إدارته. لكن ما لم يكن يعرفه هو أنه كان مراقبًا وسيتم القبض عليه بطريقة لم يكن ليتخيلها. جلست عميلتان بجوار روس وبدأتا في افتعال شجار بصوت عالٍ. التفت روس ليرى ما يحدث، وفي الثانية التي أدار فيها رأسه، قام عميلان بسرقة الحاسوب المحمول وهو مفتوح، وقام الباقون بالقبض عليه.
ما بعد “طريق الحرير”
كانت محاكمة روس طويلة، وفي عام 2015، حُكم عليه بتهم خطيرة تشمل غسيل الأموال والقرصنة وإدارة سوق للمخدرات. حُكم عليه بالسجن المؤبد مرتين بالإضافة إلى أربعين عامًا، دون أي إمكانية للإفراج المشروط.
صحيح أن قصة روس انتهت، لكنها كانت السبب في إغلاق أكبر إمبراطورية للممنوعات على الإنترنت. وكمية المعلومات الهائلة التي كانت على حاسوبه المحمول أدت إلى إلقاء القبض على العديد من البائعين والعملاء بعده.