غسيل الأموال، تجارة المخدرات، وتسهيل الاعتداء الجنسي على القاصرات؛ هي بعض التهم التي وُجهت إلى بافل دروف، مؤسس تطبيق تيليغرام. التطبيق الذي استطاع أن يخدع الملايين بخرافة أنه تطبيق مراسلة آمن ويستخدم أقوى أنظمة التشفير. في هذا المقال، ستتعرف كيف أن كل كلام بافل دروف عن تطبيق تيليغرام وأن هدفه الأساسي هو الخصوصية ومنح الناس حرية التعبير عن آرائهم هو كذبة كبيرة.
لكي نعرف لماذا تيليغرام هو أسوأ تطبيق مراسلة وكيف خدع كل مستخدميه، يجب أن نعود بالزمن إلى الوراء، إلى اليوم الذي وُلد فيه بافل دروف.
من هو بافل دروف؟
بافل دروف، المعروف بـ “مارك زوكربيرج الروسي”، وُلد في عام 1984 في لينينغراد. كان والده، فاليري دروف، دكتورًا في العلوم اللغوية، أما والدته، ألبينا دروف، فكانت تعمل في مجال علم الأحياء. الشخص الذي كان له التأثير الأكبر على طفولة بافل هو أخوه نيكولاي، الذي كان يُعتبر عبقريًا في الرياضيات ومهووسًا إلى درجة كبيرة بالبرمجة، والذي سنتعرف بعد قليل كيف أنه كان أحد أهم أسباب نجاح تيليغرام.
ولادة “فكونتاكتي”
بعد دراسة بافل وتخرجه من الجامعة، رفض كل عروض العمل في شركات التكنولوجيا والمعلومات الكبرى لأن صديقه عرّفه على نسخة أولية من فيسبوك. هنا، قرر بافل أن ينسخ فكرة فيسبوك الأساسية وينشئ منصة تواصل اجتماعي روسية. بالفعل، في عام 2006، بدأ بافل دروف مع أخيه الأكبر نيكولاي العمل على مشروع “فكونتاكتي” (VKontakte).
كانت فكرة هذه المنصة هي نفس فكرة فيسبوك تمامًا، حتى أنه استخدم نفس استراتيجية مارك زوكربيرج في نشرها، حيث كانت في البداية تركز على الطلاب وخريجي الجامعات الروسية. أصبحت “فكونتاكتي” أكبر شبكة اجتماعية في روسيا، لدرجة أنه بعد عام واحد فقط من إطلاقها في 2007، وصل عدد مستخدميها إلى 3 ملايين. بعد ذلك، وبشكل هائل، تجاوز عدد مستخدمي المنصة بنهاية عام 2011 أكثر من 100 مليون مستخدم.
الصدام مع الحكومة وولادة تيليغرام
مع النمو الهائل للتطبيق خلال فترة قياسية، بدأت “فكونتاكتي” تجذب انتباه الحكومة الروسية، لدرجة أن الحكومة بدأت تضغط على الشركة وتطالبها بحظر بعض المجموعات التي كانت تنظم مظاهرات ضد تزوير الانتخابات الروسية في عام 2011. لكن بافل دروف رفض كل مطالبات الحكومة، بل واستهزأ بها عبر نشر صورة لكلب يُخرج لسانه على صفحته الشخصية، ووصلت الأمور به إلى أنه وجه للحكومة الروسية إشارة بذيئة بإصبعه. كان هذا أول صراع بينه وبين الحكومة الروسية.
في هذه الفترة، وبالرغم من كل مشاكل بافل مع الحكومة الروسية، بدأ هو وأخوه نيكولاي العمل على مشروعهما الجديد الذي أسموه تيليغرام. لكن العمل على المشروع توقف بسبب أنه في عام 2013، نفذت الشرطة الروسية مداهمة على مكتب بافل داخل “فكونتاكتي” ووجهوا له تهمة أنه دهس شرطي مرور وهرب. أصر بافل على أن هذه التهم لفقتها الحكومة الروسية له لكي تجعله يتعاون معها.
في عام 2014، وبشكل مفاجئ، أعلن بافل أنه أُجبر على مغادرة روسيا بسبب رفضه تسليم بيانات المستخدمين للحكومة الروسية. بعد ذلك، أعلن أنه باع كل أسهمه في شركة “فكونتاكتي” وترك روسيا إلى الأبد. منذ أن ترك بافل روسيا، وهو يعيش حياة تشبه حياة البدو، يتنقل من دولة إلى دولة، وحالياً يحمل أربع جنسيات، هي:
- روسيا
- الإمارات العربية المتحدة
- فرنسا
- سانت كيتس ونيفيس
خرافة التشفير الآمن
بعد ترك روسيا، استأنف بافل وأخوه نيكولاي عملهما على تيليغرام. كانت التصريحات الأولية من بافل دروف هي أن سبب إنشائه لتيليغرام هو أنه يسعى لإنشاء وسيلة اتصال آمنة أهم أولوياتها هي أمان وخصوصية المستخدمين. حتى أنه صرح بأن أخاه نيكولاي قام بتطوير بروتوكول تشفير جديد اسمه “MTProto”، الذي سنتعرف بعد قليل أنه أفشل نظام تشفير، وهو على عكس ما يدعي مؤسس تيليغرام بأنه يقدم مستوى غير مسبوق لحماية مراسلات المستخدمين.
عندما سمع الناس بقصة بافل دروف الدرامية وكيف أنه تحدى الحكومة الروسية ليحمي بيانات المستخدمين، وفي نفس الوقت سمعوا أنه أنشأ تطبيق مراسلة واخترع فيه نظام تشفير جديد، اكتسب البرنامج شعبية كبيرة، بالإضافة إلى الوعود التي لا أساس لها بالسرية الكاملة. بالفعل، في عام 2014، وصل عدد مستخدمي تيليغرام إلى 35 مليون مستخدم. وحالياً في عام 2024، وصل عددهم تقريباً إلى مليار مستخدم، ويحتل تيليغرام المركز الثامن في قائمة التطبيقات الأكثر شعبية في العالم.
كيف يعمل التشفير حقًا؟
مع النجاح الكبير لتيليغرام ومعرفة الدول وخبراء التشفير حول العالم بأن التطبيق على عكس ما يروج له مؤسسوه، بدأت الحكومات العالمية تتهم التطبيق بأنه يساعد على الإرهاب والأنشطة غير القانونية. يعتقد الكثير من الناس أن وجود كمية كبيرة من المجرمين والجرائم البشعة على تيليغرام هو بسبب تشفيره القوي، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا. سبب تحول تيليغرام إلى ساحة كبيرة لتجار المخدرات والنصابين والمرضى نفسيًا هي سياسات الشركة نفسها.
لكي نفهم سبب محاربة الدول لتطبيق تيليغرام، يجب أن نتعرف كيف يعمل التشفير.
نظام تشفير الطرف-إلى-الطرف (End-to-End)
هو أقوى وأأمن نظام تشفير موجود حاليًا. ببساطة، تشفير الرسائل يتم على جهازك، وليس على خوادم (سيرفرات) التطبيق.
- عندما ترسل رسالة، يمتلك كل من جهاز المرسل والمستقبل “مفتاحًا خاصًا”.
- هذه المفاتيح الخاصة لا تتم مشاركتها مع خوادم التطبيق نهائيًا.
- المفاتيح الخاصة هي المسؤولة عن تشفير وفك تشفير الرسائل على الأجهزة مباشرة.
- تعتبر خوادم التطبيق مجرد وسيط لنقل الرسالة المشفرة.
نظام تشفير تيليغرام (MTProto)
أما بالنسبة لنظام تشفير تيليغرام الذي اخترعه نيكولاي، فهو يعمل بنظام مختلف:
- جهازك لا يقوم بتشفير الرسائل.
- الرسائل التي ترسلها يتم تشفيرها بعد أن تصل إلى خوادم تيليغرام.
- بعد ذلك، يقوم تيليغرام بإرسالها إلى الجهاز المستقبل، مما يعني أن الشركة لديها القدرة على الوصول إلى رسائلك.
ملاحظة: هذا شرح مبسط لمفهوم التشفير المعقد.
للأسف، يستخدم تيليغرام تشفير الطرف-إلى-الطرف في حالة واحدة فقط: إذا قمت بتفعيل هذه الخاصية يدويًا وفقط من خلال “المحادثات السرية” (Secret Chats). عندما تقوم بتنزيل تطبيق تيليغرام، يأتي بإعدادات افتراضية تستخدم تشفير MTProto الضعيف.
إذا أردت تشفير رسائلك على تيليغرام بتشفير الطرف-إلى-الطرف، يجب عليك بدء “محادثة سرية” مع شخص واحد فقط. هذه الخاصية لا تعمل إذا كان الطرف الآخر غير متصل بالإنترنت، ولا تعمل نهائيًا في المجموعات (Groups) أو القنوات (Channels).
هنا تكمن مشكلة تيليغرام: بالرغم من تصريحاته، إلا أنه يستغل جهل الناس بالتشفير. فهو يوفر تطبيقها بتشفير ضعيف افتراضيًا. قد يقول البعض أن تيليغرام لديه خاصية “المجموعات الخاصة” (Private Groups)، ولكن هذه الخاصية تعني فقط أن المجموعة تكون مخفية ولا يمكن البحث عنها، وليس أنها مشفرة.
تيليغرام: ملاذ للجريمة
بما أن تيليغرام يخزن بيانات المستخدمين ويمكنه الوصول إليها، فقد أصبح منصة للعديد من الأنشطة غير القانونية. إليك بعض الأمثلة:
سياسات مضللة
عندما توافق على سياسات تيليغرام، فأنت توافق على عدم الترويج للعنف أو نشر محتوى غير قانوني على الرسائل أو المجموعات العامة. لم يذكروا أي شيء عن الرسائل الخاصة أو المجموعات المغلقة، مما يترك ثغرة كبيرة.
الاحتيال وسرقة البيانات
صرح اليوتيوبر بن ميكلير (Ben Mekler) أنه استأجر مهندس برمجيات لتصميم “بوت” (bot) يمكنه الحصول على معلوماتك الشخصية ورقم هاتفك تلقائيًا خلال ثوانٍ من خلال تفاعلك على المنصة. كما انتشر النصب عن طريق العملات الرقمية، حيث يروج المحتالون لعملات مشهورة ويدعون الناس لشرائها عبر روابط مزيفة بأسعار مخفضة، مما يؤدي إلى سرقة أموالهم.
قضية “جنة الجمال” (Beauty Haven)
في فيتنام، استهدفت مجموعة باسم “جنة الجمال” الرجال الباحثين عن علاقات عاطفية. كانوا يقنعون الضحايا بدفع رسوم للوصول إلى مستويات عضوية “VIP” مختلفة للتحدث مع فتيات، وكلما زاد المستوى، زادت الرسوم. قدرت المبالغ التي تم النصب بها بحوالي 22,000 دولار.
عصابة لوفي
في اليابان، اعترفت عصابة تتكون من مجرمين يابانيين مقرهم الفلبين، يتزعمها شخص يطلق على نفسه “لوفي”، بأنها مسؤولة عن سلسلة من عمليات الاحتيال كلفت اليابانيين أكثر من 13 مليار دولار. كانت استراتيجيتهم هي نشر إعلانات عن “وظائف مظلمة” على وسائل التواصل الاجتماعي. وعندما يتقدم شخص ما، يتواصلون معه عبر تيليغرام ويطلبون منه التنكر بزي ضابط شرطة والتوجه إلى ضحايا محددين (عادة من كبار السن) وإقناعهم بأن حساباتهم البنكية تم اختراقها، ثم يسرقون بطاقات الصراف الآلي الخاصة بهم ويسحبون كل الأموال.
جرائم ضد الحيوانات
في عام 2023، تم الكشف عن وجود مجموعات على تيليغرام في إندونيسيا حيث كان الناس يدفعون لمشاهدة وتصوير أنفسهم وهم يقومون بأعمال مقززة على صغار القردة. هذه الممارسات انتشرت إلى الصين وحتى أمريكا.
قضية “Nth Room”
في عام 2020، صُدمت كوريا الجنوبية بأخبار عن “الغرفة الشريرة” و”غرفة الطبيب”، وهي سلسلة من الجرائم الإلكترونية على تيليغرام. كان الغرض من هذه الغرف هو ابتزاز المراهقات (أكثر من 100 ضحية) لتصوير أنفسهن في أوضاع جنسية. كان المسؤولون عن هذه الغرف، “جاد جاد” (God-God) و”الطبيب” (Doctor)، يستخدمون أساليب مختلفة، مثل التظاهر بأنهم ضباط شرطة أو تقديم إعلانات وظائف وهمية برواتب مغرية للحصول على المعلومات الشخصية للفتيات ثم ابتزازهن.
ثلاثة سيناريوهات محتملة
بناءً على التحليل، يمكن أن يكون بافل دروف يعيش واحدًا من ثلاثة سيناريوهات:
- المدافع الساذج: لم يتوقع بافل دروف أن يصل تيليغرام إلى هذا النجاح، وهو يحاول حقًا الحفاظ على خصوصية المستخدمين برفض طلبات الحكومات. فهو يخشى أنه لو وافق، ستنهار كل ادعاءاته حول الخصوصية وسينهار التطبيق معه.
- المستفيد الصامت: يستفيد بافل دروف بطريقة أو بأخرى من الجرائم التي تحدث على تيليغرام (مثل غسيل الأموال أو تجارة المخدرات). ورفضه كشف بيانات المستخدمين هو خوف من وجود أدلة تدينه بالاشتراك في هذه الجرائم أو على الأقل التستر عليها.
- الجاسوس الروسي: قد يكون بافل دروف جاسوسًا روسيًا. ما يدعم هذا الاحتمال هو خروجه السهل من روسيا رغم تحديه الصريح لبوتين، ودفاع بوتين عنه لاحقًا، وترحيب السياسيين الروس بعودته. بالإضافة إلى ذلك، فإن شركة تيليغرام التي تخدم مليار مستخدم تتكون من 30 موظفًا فقط، بدون مقر ثابت وخوادم موزعة عالميًا، مما يثير الشكوك حول احتمال تعامله المباشر مع الحكومة الروسية منذ البداية.
الخلاصة: لا يوجد أمان مطلق
من المهم توضيح نقطة مهمة جدًا: لا يوجد شيء على الإنترنت خاص وآمن 100%. لكن تطبيق سيجنال (Signal) هو الخيار الأنسب لأي شخص يهتم كثيرًا بخصوصيته، فهو على عكس تيليغرام تمامًا، تطبيق غير ربحي نهائيًا. بالرغم من الادعاءات بأن تيليغرام غير ربحي، إلا أن الحقيقة غير ذلك، فهو برنامج ربحي بحت.
مؤسسه، بافل دروف، الذي أُفرج عنه مؤخرًا بكفالة 5 ملايين يورو، هو ممثل استطاع أن يكسب تعاطف ملايين الناس بتمثيليته لدعم قضية الحرية والخصوصية. تذكر دائمًا أننا لا نحتاج إلى بناء منصة للمجرمين والمحتالين والمرضى النفسيين لكي نصل إلى الحرية والخصوصية.