الإنترنت، كلمة صغيرة لكن معناها كبير، فقد غيرت حياتنا بشكل كامل. غيرت طريقة عملنا، تواصلنا، تعلمنا، وحتى طريقة حبنا واحتجاجنا. اليوم، أكثر من خمسة مليارات شخص حول العالم متصل بالشبكة، لكن كم واحدًا منا يعرف كيف بدأت؟ كيف نشأت الإنترنت؟ من كان أول من أرسل رسالة عبرها؟ وهل كان هذا مجرد صدفة، أم أنه نتيجة لأحداث سياسية وخوف وصراع على القوة وعقول مبتكرة؟ في هذا المقال، سوف نعود إلى الماضي، أكثر من 70 عامًا، لنروي لكم القصة كاملة: قصة الإنترنت.
البداية في زمن الحرب الباردة
في الخمسينيات من القرن الماضي، كانت الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي في ذروتها. في عام 1957، أطلق الاتحاد السوفيتي أول قمر صناعي في الفضاء، سُمي “سبوتنيك 1”. كانت الولايات المتحدة في حالة صدمة، تخيلوا أن قمرًا صناعيًا سوفيتيًا يطوف حولهم وهم عاجزون عن الرد. كرد فعل على هذا، أسست الولايات المتحدة وكالة جديدة باسم “وكالة مشاريع البحوث المتقدمة الدفاعية” (DARPA). كان هدفها التفوق التكنولوجي بأي طريقة، ومن هنا بدأت فكرة إنشاء شبكة لا مركزية؛ شبكة لا تنهار إذا تم تدمير أحد فروعها في الحرب.
اقترح جي. سي. آر. ليكليدر في بداية الستينات فكرة لشبكة معلومات عالمية سماها “الشبكة الكونية”. تخيلوا شخصًا يتحدث عن شبكة عالمية في وقت كان فيه الكمبيوتر يحتاج غرفة كاملة ليعمل. سنة 1969، تم ربط أول أربع حواسيب بشبكة تجريبية أطلقت عليها وزارة الدفاع الأمريكية اسم “أربانت” (ARPANET)، وكانت هذه هي البذرة الأولى لما نعرفه اليوم باسم الإنترنت.
الرسالة الأولى في التاريخ
لكن اللحظة الأهم جاءت في 29 من أكتوبر من نفس العام. طالب اسمه تشارلي كلاين في جامعة كاليفورنيا (UCLA) حاول إرسال كلمة login
إلى معهد ستانفورد عبر الشبكة.
كتب “L” ثم “O”، وفجأة تعطلت الشبكة. توقف كل شيء.
أول رسالة إلكترونية في تاريخ الإنترنت كانت حرفين فقط: “LO”. وكأنها بشكل رمزي تقول لنا: “Hello” (مرحباً) ببداية عصر جديد. هذا الحدث التاريخي كان بإشراف العالم ليونارد كلاينروك، أحد رواد علم الشبكات، وتم تسجيله رسميًا في ملف يُعرف بـ “IMP Log”، أول سجل موثق لعملية اتصال رقمي في التاريخ.
التوسع العالمي
بعد هذه البداية، بدأت الشبكة تتوسع ببطء.
- عام 1971: أرسل المهندس راي توملينسون أول بريد إلكتروني، وكان أول من استخدم الرمز
@
لفصل اسم المستخدم عن اسم الجهاز. في ذلك الوقت، لم يكن يتخيل أن هذه الفكرة ستصبح جزءًا أساسيًا من حياتنا اليومية. - عام 1973: توسعت شبكة أربانت إلى خارج أمريكا، وربطت بين جامعة في لندن وأخرى في النرويج، وبذلك أصبحت الإنترنت عالمية لأول مرة.
لغة مشتركة للشبكات
بحلول منتصف السبعينات، أصبحت الشبكة تواجه تحديًا هامًا: كيف يمكن ربط الشبكات المختلفة مع بعضها؟ الشبكات لم تكن قادرة على التفاهم فيما بينها. هنا جاء العالمان فينت سيرف وروبرت خان، وصمما بروتوكولًا جديدًا يسمى “بروتوكول التحكم في الإرسال/بروتوكول الإنترنت” (TCP/IP). هذان البروتوكولات كانا بمثابة لغة مشتركة لتمكين الشبكات من التواصل. في الأول من يناير 1983، أصبح هذا البروتوكول هو البروتوكول الرسمي للإنترنت، وكان هذا بمثابة الميلاد الحقيقي للإنترنت. شبكة أربانت نفسها تم إغلاقها في عام 1990 بعد أن سلمت الراية لشبكة أكبر وأوسع.
ولادة الشبكة العنكبوتية العالمية
حتى الثمانينات، كانت الإنترنت أداة يستخدمها الباحثون والعسكريون فقط. لكن في عام 1989، اقترح العالم البريطاني تيم بيرنرز-لي فكرة جديدة: إنشاء نظام يسمح بمشاركة الوثائق عبر روابط نصية. وفي عام 1991، أطلق أول موقع إلكتروني في التاريخ من مركز CERN الأوروبي. كان اسم الموقع info.cern.ch
، ومن هنا بدأت قصة الشبكة العنكبوتية العالمية (World Wide Web).
اخترع بيرنرز-لي ثلاث تقنيات أساسية:
- HTML: لغة ترميز النصوص التشعبية.
- HTTP: بروتوكول نقل النصوص التشعبية.
- URL: محدد مواقع الموارد الموحد (عناوين صفحات الإنترنت).
الإنترنت للجميع
في بداية التسعينات، بدأت الإنترنت تصبح قوة اقتصادية واجتماعية.
- 1994: ظهر موقع أمازون.
- 1995: انطلق إيباي.
- 1998: ظهر جوجل ليغير طريقة بحثنا عن المعلومات.
انتشرت مقاهي الإنترنت، وأصبح البريد الإلكتروني جزءًا من روتيننا اليومي، وظهرت الدردشة على الإنترنت، كما ظهرت أولى متصفحات الإنترنت التجارية مثل Netscape و Internet Explorer.
ثورة التواصل الاجتماعي
مع بداية القرن الـ21، لم تعد الإنترنت رفاهية، بل أصبحت ضرورة. ظهرت مواقع غيرت العالم:
- ويكيبيديا (2001)
- فيسبوك (2004)
- يوتيوب (2005)
- تويتر (2006)
الهواتف الذكية جعلت الإنترنت في متناول أيدينا، ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت جزءًا أساسيًا من حياتنا. ظهرت مفاهيم جديدة مثل المحتوى الفيروسي، والتسويق الرقمي، والإعلانات المستهدفة، وكلها غيرت الاقتصاد.
المستقبل وما بعده
اليوم، أكثر من خمسة مليارات شخص متصلون بالإنترنت، لكن القصة لم تنتهِ. هناك من يعمل على الواقع المعزز والعوالم الافتراضية، وهناك من يطور الإنترنت عبر الأقمار الصناعية مثل مشروع “ستارلينك”، وهناك من يسعى لدمج الإنترنت مع الدماغ مثل مشروع “نيورالينك”. الذكاء الاصطناعي أصبح يكتب، يرسم، ويتكلم، ونحن الآن نعيش لحظة تحول كبرى في تاريخ البشرية. فهل نحن من نتحكم في هذه الشبكة، أم أنها بدأت تتحكم فينا؟
الإنترنت بدأت كوسيلة لحماية أمن الدولة، لكنها أصبحت أداة لتوحيد العالم. ولكن لها وجهين: وجه يحمل المعرفة والحرية والتواصل، ووجه آخر مليء بالمراقبة والإدمان والعزلة. وفي النهاية، الإنترنت هي انعكاس لنا. هل سنحسن استخدامها، أم سنسمح لها بالتحكم فينا؟