مرحباً بكم في مقال جديد. في هذا المقال، سنتناول تقرير مايكروسوفت للشركات الريادية، وسنتحدث عن الذكاء الاصطناعي وعن مستقبل التطوير بشكل عام.
في تقرير نشرته مايكروسوفت في شهر أبريل الماضي، عرضت فيه رؤيتها للشركات البرمجية ومستقبل شركات التطوير. قدمت مايكروسوفت في التقرير رؤية جريئة وإحصائيات قد تكون مخيفة للبعض وحماسية للبعض الآخر. كان محور التقرير عن مفهوم أسمته مايكروسوفت “Frontier Firm” أو “المؤسسة الريادية” التي تقع على حدود الابتكار.
مفهوم “المؤسسة الريادية” (Frontier Firm)
منذ أن بدأت مايكروسوفت تعاونها مع OpenAI، كان واضحًا للجميع أن هذا التعاون سيصب في إعادة تشكيل المؤسسات. فمايكروسوفت تسيطر على عالم المؤسسات، ومعظم تطبيقاتها وخدماتها موجهة للشركات الكبرى (Enterprises). لذا، كان السؤال المطروح هو: ما الذي ستقدمه مايكروسوفت لعالم المؤسسات باستخدام هذه الشراكة الضخمة؟
على عكس الاعتقاد الشائع بأن اعتماد مايكروسوفت الأساسي على “ويندوز”، فإن جزءًا كبيرًا من أرباحها يأتي من المؤسسات. كل ما تقدمه تقريبًا يستهدف الشركات. من هنا، أتت رؤية “Frontier Firm”.
أرى أن الترجمة الأنسب لـ “Frontier Firm” هي “الشركة التي على حدود الابتكار”. ليست فقط شركة مبتكرة، بل هي الشركة التي تجاوزت الابتكار الحالي وتعيش على حافة ما هو قادم، تدفع الحدود باستمرار وتخلق أسواقًا جديدة.
عندما قدمت مايكروسوفت هذا المفهوم، قصدت به الشركات التي تتميز بسمتين أساسيتين:
-
الذكاء عند الطلب (Intelligence on Tap): لم يعد من الممكن الاعتماد على الذكاء البشري المتاح لثماني ساعات فقط في اليوم. نحن بحاجة إلى ذكاء يعمل على مدار 24 ساعة طوال أيام الأسبوع. بدلًا من توظيف عدة مناوبات من الموظفين، يمكن توظيف عملاء ذكاء اصطناعي (AI Agents) ليكونوا متاحين دائمًا. هذا يشبه التحول من التلفزيون التقليدي، الذي له جدول بث محدد، إلى خدمات مثل يوتيوب، حيث الترفيه متاح عند الطلب وفقًا لشروط المستخدم. رؤية مايكروسوفت هي أن إنجاز العمل سيتجه نحو هذا النموذج، حيث لا يكون صاحب العمل مقيدًا بجدول الموظف.
-
مدير يدير البشر والعملاء الأذكياء: ظهر مفهوم جديد هو “AI Agent Boss”، وهو المدير الذي لا يوجه ويقيم البشر فقط، بل يضع التوجيهات ويراقب ويوافق على عمل العملاء الأذكياء في نفس الوقت.
مراحل التحول الثلاث
وضعت مايكروسوفت ثلاث مراحل لتحول المؤسسات التقليدية إلى مؤسسات ريادية:
-
المرحلة الأولى: لكل موظف مساعد ذكي (AI Assistant) هذا ما بدأنا نراه اليوم. معظم الموظفين في الشركات التي تسعى للتحول أصبح لديهم منتج شبيه بـ ChatGPT أو Gemini يساعدهم في مهامهم، مثل كتابة التعليمات البرمجية، أو إنشاء حالات اختبار، أو حتى إعداد الميزانيات.
-
المرحلة الثانية: عملاء أذكياء مستقلون (AI Agents) في هذه المرحلة، لم يعد المساعد مجرد مساعد، بل أصبح “عميلًا” قادرًا على التفكير والتخطيط واتخاذ الإجراءات وإنجاز مهام وسير عمل كامل. قد يطلب تدخلًا بشريًا في لحظات معينة للموافقة أو المراجعة، لكنه قادر على العمل بشكل مستقل.
-
المرحلة الثالثة: العملاء الأذكياء كجزء من الفريق هنا، يصبح العملاء الأذكياء جزءًا لا يتجزأ من الفرق. على سبيل المثال، قد يتكون فريق التسويق من شخصين بشريين وعميلين ذكيين. أو فريق البرمجة قد يضم ثلاثة عملاء أذكياء يطورون قواعد البيانات وتطبيقات الويب والواجهات الأمامية، إلى جانب مبرمج بشري.
ملامح المؤسسة الريادية
للشركات الريادية عدة ملامح تميزها:
- وجود العملاء الأذكياء: يعتبرون جزءًا من القوى العاملة.
- وحدة موارد الذكاء (Intelligence Resource): بدلًا من “الموارد البشرية”، ستكون هناك وحدة جديدة تدمج بين الموارد البشرية وتقنية المعلومات، وظيفتها إدارة الوصف الوظيفي للعملاء الأذكياء، وتحديد المهام المتوقعة منهم، وحتى استئجارهم من مصادر خارجية.
- مقياس جديد (عجز الذكاء): سيظهر مؤشر أداء جديد يقيس نسبة العجز في الذكاء المطلوب لإنجاز الأعمال، مما يساعد الشركات على تقييم جدوى توظيف عميل ذكي مقابل موظف بشري.
- فرق مختلطة وعمالة رقمية (Digital Labor): وجود العملاء الأذكياء يعني وجود فرق عمل هجينة تتكون من البشر والآلات.
- مدير العملاء الأذكياء (AI Agent Boss): دور جديد وظيفته إدارة الفرق المختلطة.
- مخطط العمل (Work Chart): سيتغير الهيكل التنظيمي من كونه مبنيًا على الوظائف والألقاب إلى كونه مبنيًا على القدرات المطلوبة لإنجاز العمل. بدلًا من توظيف “محاسب”، ستقوم الشركة بتوظيف عميل ذكي لإعداد الميزانية العمومية.
ما هو العميل الذكي (AI Agent)؟
العميل الذكي هو نظام يتميز بثلاثة أشياء: القدرة على التفكير، والقدرة على اتخاذ إجراء، والقدرة على التذكر.
المكونات الأساسية للعميل الذكي
- العقل (Large Language Model - LLM): هو قلب العميل الذكي. في البداية، كان بإمكاننا طرح الأسئلة على نماذج مثل ChatGPT والحصول على إجابات منطقية، لكنها لم تكن قادرة على تنفيذ طلبات مثل إنشاء ملف Excel.
- الأدوات (Tools): عندما تم تزويد النماذج اللغوية بالقدرة على استدعاء أدوات خارجية (مثل إنشاء ملف PDF أو التفاعل مع واجهات برمجة التطبيقات)، أصبحت قادرة على اتخاذ إجراءات. وقد توسعت هذه الأدوات بشكل كبير مع ظهور بروتوكولات مثل
MCP
(Model-Client Protocol)، الذي يربط النماذج اللغوية بأي أداة خارجية، مما جعل كل وظائف تلك الأداة متاحة من خلال النموذج اللغوي. - الذاكرة (Memory): لكي يكون العميل الذكي فعالًا، يجب أن يكون قادرًا على التذكر. هذا يشمل:
- الذاكرة قصيرة المدى: لتذكر سياق المحادثة الحالية.
- الذاكرة طويلة المدى: لحفظ المعلومات المهمة واسترجاعها لاحقًا، مثل حفظ ملف في نظام إدارة المحتوى أو استرداد بيانات من قاعدة بيانات.
- الشخصية (Personality / System Prompt): هذا هو المكون الذي يحدد كيفية تصرف العميل الذكي. من خلال “موجه النظام” (System Prompt)، يمكنك توجيه العميل للرد كخبير في مجال معين، أو اتباع خطوات محددة، أو استخدام أدوات معينة في مواقف محددة.
كيف يعمل العميل الذكي بشكل مستقل؟
لا يزال العميل الذكي بحاجة إلى محفز (Trigger) ليبدأ العمل. يمكن أن يكون هذا المحفز واحدًا من ثلاثة أشياء:
- موجه من المستخدم (User Prompt): من خلال واجهة مستخدم حيث يكتب المستخدم طلبه.
- حدث في النظام (System Event): يستمع العميل لحدث معين في أنظمة المؤسسة، وعند وقوعه، يبدأ العمل.
- مستمع (Listener): يمكن توجيه العميل لمراقبة مصدر معين، مثل صندوق بريد إلكتروني، والبدء في العمل عند وصول رسالة بمعلومات محددة.
مثال عملي على ذلك هو GitHub Copilot
. عندما يتم تعيين مهمة (Issue) لـ Copilot، فإنه يصل إلى مستودع الشفرة، وينشئ فرعًا جديدًا، ويحل المشكلة، ثم يقدم طلب سحب (Pull Request) للمراجعة البشرية.
أنماط تصميم العملاء الأذكياء (Design Patterns)
عند بناء أنظمة معقدة، قد نحتاج إلى أكثر من عميل ذكي واحد. هنا تظهر أنماط التصميم لتنظيم تفاعلهم:
- سلسلة الأفكار (Chain of Thought): يتم تمرير المهمة عبر سلسلة من العملاء الأذكياء، حيث يقوم كل واحد منهم بتحسين أو إضافة شيء إلى عمل الذي سبقه. على سبيل المثال، عميل يكتب مسودة حملة تسويقية، والثاني يصحح الأخطاء الإملائية، والثالث يتأكد من وجود الكلمات المفتاحية.
- نمط “ريآكت” (ReAct - Reason, Act, Observe): يطلب من العميل الذكي التفكير والتخطيط أولًا، ثم التنفيذ، ثم مراقبة النتائج. بناءً على الملاحظة، يقوم إما بإعادة صياغة المخرجات بطريقة قابلة للقراءة للبشر أو يتأكد من أن المخرجات تحقق الهدف المطلوب ويستمر في هذه الحلقة.
- شجرة القرارات (Tree of Thoughts): يكون هناك عدة عملاء أذكياء يعملون على نفس المشكلة بطرق مختلفة، ويوجد عميل ذكي رئيسي يقارن النتائج ويختار الأفضل.
هذا يعني أنه يمكن بالفعل أن يكون هناك عميل ذكي يعمل كمدير، يوجه الطلبات إلى العملاء الآخرين بناءً على طبيعة المهمة.
دور الإنسان: مساعد الطيار أم الطيار الآلي؟
حتى مع هذه القدرات، لا يزال التدخل البشري ضروريًا، خاصة في الإجراءات الحرجة التي لا يمكن التراجع عنها (مثل الكتابة على قاعدة بيانات أو إصدار شهادة). لهذا السبب، تسمي مايكروسوفت منتجاتها “Co-pilot” (مساعد الطيار) وليس “Autopilot” (الطيار الآلي). العميل الذكي سيوفر وقتًا هائلاً من خلال إنجاز معظم الخطوات، لكنه سيطلب موافقة بشرية في اللحظات الحاسمة. نسبة البشر إلى العملاء الأذكياء في الشركات لن تصل أبدًا إلى صفر مقابل 100%.
كيف يمكن للمؤسسات أن تبدأ هذا التحول؟
- هل تحتاج حقًا إلى عميل ذكي؟ قبل كل شيء، يجب تقييم ما إذا كان العميل الذكي هو الحل المناسب للمشكلة، فقد يكون الحل التقليدي أرخص أو أكثر كفاءة.
- افهم المكونات والحدود: من الضروري فهم ماهية العميل الذكي، ومكوناته الأربعة، وحدود قدراته. لا يمكن معرفة ما إذا كنت بحاجة إليه دون فهمه أولًا.
- افهم أنماط التصميم: تعلم أنماط التفكير المختلفة مثل “Chain of Thought” و”ReAct” لمعرفة كيفية توظيفها بشكل فعال.
- حدد حاجتك لعدة عملاء: قرر ما إذا كنت بحاجة إلى عميل واحد أم عدة عملاء متخصصين (للكتابة، للتحليل، للرسم، إلخ) وكيف سيتفاعلون معًا.
- ضع الضوابط والمعايير (Guardrails): العميل الذكي الناجح هو العميل الآمن. يجب وضع ضوابط منذ اليوم الأول لضمان أمان المحتوى، وحماية الخصوصية، ووجود مراجعة بشرية عند الضرورة.
- ركز على النتائج أولًا: في البداية، ركز على إطلاق شيء يعمل ويقدم نتيجة ملموسة. يمكن تحسين البنية الهندسية والتصميم لاحقًا بعد إثبات الفكرة والحصول على ملاحظات المستخدمين.
نحن أمام مستقبل حماسي وتحول جذري في سوق العمل. من الواضح أننا سنشهد تسارعًا أكبر من الذي عشناه خلال العشرين سنة الماضية في كل جانب من جوانب حياتنا اليومية.