هل سألت نفسك يومًا لماذا يبدأ الكثير من الناس في تعلم البرمجة بحماس شديد ثم يختفون فجأة؟ لماذا يقضي البعض سنوات في محاولة العمل في مجال البرمجة، وفي النهاية يصابون بالإحباط أو يغيرون مجالهم؟ هل المشكلة فيهم، أم أن هناك أمرًا خفيًا في الجانب المظلم من البرمجة لا يتحدث عنه أحد؟
هذا المقال هو بمثابة إنقاذ، وقد يغير طريقتك في التعامل مع مجال البرمجة بالكامل. سأتحدث معك عن الحقيقة التي واجهتها بنفسي ورأيت الكثيرين يغرقون فيها: الجانب المظلم للبرمجة.
1. الوحدة والعزلة الاجتماعية
نعم، البرمجة مجال ممتع، ولكنه أيضًا انعزالي جدًا. في أغلب الأوقات، ستجد نفسك جالسًا أمام شاشة تكتب الأكواد لساعات طويلة، دون تفاعل اجتماعي يُذكر. حتى عند العمل ضمن فريق، ستقضي حوالي 80% من وقتك بمفردك. قد تكون الشاشات المتعددة مؤنسة لك إلى حد ما.
في أول سنة عمل لي كمبرمج، كنت أعتقد أن هذا هو الوضع الطبيعي. لكن بعد فترة، بدأت أشعر بحالة غريبة من العزلة، حتى وأنا بين الناس. المشكلة أن هذا الشعور يتطور تدريجيًا إلى حالة مزعجة تؤثر على صحتك النفسية، ولا تلاحظها إلا بعد فوات الأوان.
نقطة مهمة: المبرمج الناجح ليس الذي يعمل لساعات أطول، بل هو الذي يعرف كيف يوازن بين حياته الشخصية وعمله. لذلك، عليك تنظيم وقتك وتخصيص مساحة في جدولك للخروج، ومقابلة الأصدقاء، وتجربة أشياء جديدة تحبها. صحيح أن تحقيق التوازن بين العمل والحياة (Work-Life Balance) قد يكون صعبًا في بداية مسيرتك المهنية، ولكن حاول. بدلًا من العمل لمدة 16 ساعة، اعمل 14 ساعة فقط؛ فأنت أولى بهاتين الساعتين. هذه ليست رفاهية، بل هي عملية شحن لطاقتك لتتمكن من إكمال المسيرة التي بدأتها.
2. التوقعات الزائفة والحقائق المؤلمة
ستجد الكثير من المحتوى الذي يخبرك: “تعلم البرمجة في ثلاثة أشهر واحصل على وظيفة براتب 5000 دولار”. تبدأ في الحلم، وتشتري الدورات، وتتعلم لغة تلو الأخرى. وماذا بعد؟ تستيقظ على الحقيقة المؤلمة وتكتشف أن الأمر ليس بهذه البساطة.
البرمجة ليست وصفة سحرية، وليست مجالًا ينجح فيه الجميع بسرعة. لقد بدأت تعلم البرمجة قبل دخولي الجامعة، وقضيت شهورًا أتعلم HTML
، CSS
، وJavaScript
، وكنت أعتقد أنني أصبحت جاهزًا لسوق العمل. لكن عندما تقدمت لأول وظيفة، تم رفضي. والسبب؟ لأن ما كنت أبنيه كان مجرد تطبيقات سطحية لا يمكن الاعتماد عليها في بيئة عمل حقيقية. كانت هذه هي المشكلة التي لم يخبرني بها أحد: الحاجة إلى التعلم بعمق.
نصيحتي لك: لا تتسرع. أعطِ كل مفهوم حقه أثناء الدراسة، وطبّق ما تتعلمه مرارًا وتكرارًا. المحتوى التعليمي ليس مسلسلًا تشاهده مرة واحدة. حاول دائمًا بناء مشاريع حقيقية، ولا تصدق الوعود السهلة. المجال مجزٍ ماديًا، ولكن الطريق طويل ويتطلب جهدًا.
3. الإرهاق الذهني (Mental Burnout)
البرمجة لا تتطلب وقتًا فحسب، بل تستهلك مجهودًا ذهنيًا هائلاً. يومًا ما، قد تقضي ثماني ساعات في التفكير في خطأ برمجي (bug) لا تستطيع إيجاد حل له. وفي اليوم التالي، قد تجد نفسك تعيد هيكلة كود لمشروع كبير. وبعده، تضطر لتعلم إطار عمل (framework) جديد لأن متطلبات السوق تغيرت فجأة. عقلك يعمل تقريبًا 24 ساعة في اليوم، حتى وأنت نائم.
وفي لحظة معينة، دون أي مقدمات، ستجده يقول لك: “كفى”.
من الصعب جدًا تحقيق التوازن بين العمل والحياة، على الأقل في السنوات الأولى من مسيرتك المهنية. كنت أعمل في شركة، وأطور مشروعًا جانبيًا في المنزل، وأدرب مطورين مبتدئين في عطلة نهاية الأسبوع، بالإضافة إلى عمل أو عملين إضافيين بدوام جزئي. استيقظت يومًا ووجدت نفسي غير قادر على النظر إلى الشاشة أو كتابة سطر كود واحد. شعرت برغبة حقيقية في بيع حاسوبي وشراء مزرعة. هذا هو الإرهاق الذهني الذي أحدثك عنه.
ما هو الحل؟ الحل هو أن تتعلم قول “لا”. حدد وقتًا للعمل ووقتًا للراحة. تعلم أن تفصل بين حياتك والبرمجة. الكود ليس حياتك كلها، بل هو جزء منها.
4. الشعور المستمر بالفشل ومتلازمة المحتال
كلما تبدأ في تعلم تقنية جديدة، تجد أن شيئًا أحدث قد ظهر وأصبح مطلوبًا في السوق. تتعلم React
، فيقولون لك: “لا، تعلم Angular
”. تتعلم Node.js
، فتجد من يقول إن Go
أو Rust
أفضل. هذا يجعلك تشعر بأنك دائمًا متأخر، وتبدأ الأفكار السلبية في التسلل إليك، مثل أنك لن تستطيع المواكبة وأن المجال يتطلب العمل 24 ساعة.
هذا شعور خطير يجعلك تشك في قدراتك وتفقد ثقتك بنفسك. لكن دعني أخبرك بشيء من القلب: لا يوجد مبرمج يعرف كل شيء. حتى الخبراء في جوجل لديهم تخصصات دقيقة وقد لا يعرفون الكثير عن مجالات أخرى. النجاح ليس في أن تكون موسوعة، بل في أن تعرف أين تجد المعلومة، وتتعلم بسرعة، وتطبق ما تعلمته، وأن تكون متمكنًا جدًا في مجال واحد. ركز على تطوير مهارة واحدة بإتقان، ثم توسع بشكل تدريجي.
5. الانتقادات والتشكيك
سواء كنت تتعلم أو تعمل، ستسمع كثيرًا من العبارات التي تقلل من شأن ما تفعله:
- “أنت مبرمج؟ أين التطبيق الذي صنعته؟”
- “الجميع يتعلم البرمجة الآن، ما الذي سيميزك؟”
- “هل الجلوس أمام الحاسوب هو ما سيجلب لك المال؟”
وليس من المستبعد أن يكون أكثر من يقلل منك هم أقرب الناس إليك. عندما بدأت، كنت أعمل على تطبيق صغير، وكان أحدهم يقول لي ساخرًا: “هل تظن أنك تصنع فيسبوك؟”. لكن هذا المشروع نفسه كان من ضمن المشاريع التي ساعدتني في الحصول على أول وظيفة وأول راتب من البرمجة.
لذا، لا تدع كلام الناس يعطلك. كن مؤمنًا بما تفعله، حتى لو كان صغيرًا، فكل مشروع عظيم يبدأ بخطوة بسيطة.
6. التكرار والملل
نعم، البرمجة ممتعة في البداية، وبعد أن يتقدم مستواك، ستشعر بمتعة أكبر. لكن الحقيقة أن جزءًا كبيرًا منها ممل:
- إصلاح الأخطاء البرمجية (Bugs).
- كتابة الاختبارات (Tests).
- إعداد التوثيق (Documentation).
- مراجعة أكواد الآخرين.
كل هذه المهام، رغم أنها غير ممتعة، إلا أنها ضرورية. الكثير من الناس يحبون التعلم ولكنهم يكرهون العمل الفعلي. البرمجة ليست مجرد كتابة كود جديد، بل هي أيضًا مسؤولية عن الكود الذي كتبته. كنت أعتقد أن المهارة تكمن في بناء أشياء جديدة، لكن عندما عملت على كود قديم (Legacy Code) - وهو كود مكتوب منذ فترة طويلة وغير منظم - فهمت أن التعديل على كود قديم أصعب بعشر مرات من كتابة كود جديد، ولكنه يعلمك الكثير.
المبرمج الماهر هو الذي يواصل العمل حتى في غياب الحماس. فالالتزام أهم بكثير من الشغف الذي يأتي فجأة ويختفي فجأة.
7. النسيان المستمر
للأسف، بعد أن تتعلم شيئًا وتتقنه وتستخدمه لفترة، من الطبيعي جدًا أن تنساه إذا توقفت عن استخدامه. ببساطة، العقل ينسى ما لا يستخدمه. أنا شخصيًا، بعد سنوات من استخدامي لتطوير أندرويد الأصلي (Native Android)، عملت لفترة على Flutter
. وعندما عدت لتطوير تطبيق أصلي، شعرت أنني لا أتذكر شيئًا.
هذا أمر طبيعي، فلا تقلق. نصيحتي لك:
- راجع باستمرار: أنشئ مشاريع صغيرة بشكل مستمر.
- سجل ملاحظاتك: دون ما تتعلمه، فقد تحتاجه مستقبلًا.
- أنشئ نظامًا للوصول للمعلومة: نظم ملاحظاتك بطريقة تسهل عليك العودة إليها.
8. فخ المقارنة بالآخرين
هذا هو أخطر فخ في العالم التقني بشكل خاص. ترى مبرمجًا على تويتر يكتب: “أنهيت مشروع SaaS في أسبوع واحد”. وآخر على لينكدإن: “حصلت على وظيفة في أمازون بعد سنة واحدة من بدايتي”. وثالث يقول: “أنا أتقاضى 20,000 دولار شهريًا”. فتبدأ بمقارنة نفسك بهم وتشعر بأنك لا شيء.
لكن هناك نقطة مهمة قد تكون غائبة عنك: أنت لا ترى الصورة كاملة. أنت ترى النتيجة، لا الطريق. ترى المنشور، وليس الشهور والسنوات من الجهد التي كانت وراءه.
قارن نفسك بنفسك فقط. هل أنت اليوم أفضل من الأمس؟ هذا هو المهم.
الخلاصة: كيف تنجو في الجانب المظلم؟
البرمجة مجال عظيم، ولكنه قاسٍ جدًا إذا دخلته بعقلية خاطئة.
- لا تدع أي شخص يخدعك ويقول لك إن المجال سهل.
- لا تجعل نفسك فريسة للإحباط، والوحدة، والضغط، والمقارنة.
- ابدأ بداية صحيحة، وازن بين عملك وحياتك، وطور نفسك بالتدريج.
تذكر دائمًا: ليس عليك أن تكون الأسرع، وليس عليك أن تكون الأفضل، وليس عليك أن تقارن نفسك بأحد. المهم هو ألا تتوقف.
لقد مررت شخصيًا بكل هذه الظروف، وهذا ما دفعني لإعداد هذا المقال، لأنقل لك التجربة كاملة دون تجميل أو تزييف.