دليل شامل لكلية الحاسبات والمعلومات: هل هي الاختيار المناسب لك؟

مثلما كانت هناك معركة بين الدبابات والمدفعية والطائرات، كانت هناك أيضًا معركة خفية بين المهندسين. كان الجيش الألماني دائمًا يسبق بخطوة، ليس لأنه كان أذكى، بل لأنه كان يمتلك سلاحًا لا يملكه أي طرف آخر، وهذا السلاح هو “إنجما”.

كان “إنجما” جهازًا يتواصل به الجيش الألماني، ينقلون من خلاله المعلومات والأوامر العسكرية. خطط هجومهم، وأنشطتهم اليومية، ومصير الأسرى، كل شيء يتعلق بالجيش الألماني كان يمر عبر هذا الجهاز. قد يبدو هذا خطيرًا، فلو تمكن أحدهم من الحصول على الجهاز، سيعرف كل تحركات الألمان. في الحقيقة، لم يكن الأمر يمثل أي خطر. كان “إنجما” جهازًا ميكانيكيًا قادرًا على تغيير شفرته كل يوم دون أن يعرف أحد كيف يمكن فكها. وحتى لو تمكن شخص من فك الشفرة، وهو أمر قد يستغرق سنوات أو مليارات السنين، فلن يكون ذلك مهمًا لأن الشفرة تتغير يوميًا.

جهاز قوي بالفعل، لكن هل كانت بريطانيا وأمريكا ستلتزمان الصمت؟ كان عالم الرياضيات والتشفير، آلان تورنج، في سباق مع الزمن لبناء آلة يمكنها فك الشفرة في نفس اليوم قبل أن تتغير. هل نجح في ذلك؟ نعم، لقد نجح. ومن هنا ظهر أول حاسوب إلكتروني قادر على إجراء حسابات بهذا التعقيد في وقت قصير نسبيًا، وبدأ شكل العالم يتغير.

ولكن، هل للأفضل؟ في ظل التطور الهائل للحواسيب الذي نشهده اليوم، مثل نماذج الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والحواسيب فائقة السرعة، هل لا يزال بإمكان الإنسان أن يفعل المزيد، أم أننا وصلنا إلى مرحلة التشبع؟

دوامة ما بعد الثانوية

عندما تنهي المرحلة الثانوية، تبدأ وجهة نظرك في التغير تمامًا تجاه كل شيء حولك. تنفتح عيناك على أمور لم تكن تفكر فيها من قبل: ما معنى كلية؟ ما هو الـ GPA؟ ما الفرق بين هذه الكلية وتلك؟ وما هي التخصصات؟ وما هو هدف الذين يدخلون الجامعة؟ وماذا يجب أن أفعل الآن؟

تعيش في دوامة من الأسئلة التي لا تنتهي. الفترة بين ظهور النتيجة ودخول الجامعة تحدد الكثير من مستقبلك، لذا يجب أن تختار بشكل صحيح. ولكي تختار بشكل صحيح، يجب أن تعرف بشكل صحيح. لهذا السبب، نحن هنا اليوم لنساعدك على المعرفة، ولنرى ما إذا كانت كلية الحاسبات تستحق كل هذا العناء، أم من الأفضل أن تدخل أي كلية أخرى وتدرس البرمجة بشكل جانبي.

ما هي علوم الحاسب؟ وهل البرمجة هي كل شيء؟

لنكن صريحين، البرمجة ليست شيئًا يمكن تعلمه بشكل جانبي. ربما هناك مجالان أو ثلاثة يمكنك تعلمهما بجانب دراستك والوصول فيهما إلى مستوى جيد، لكن ليس أكثر من ذلك.

كلية الحاسبات بشكل عام ليست مبنية على البرمجة فقط. نعم، البرمجة ركيزة مهمة جدًا من أساسيات الكلية، لكن الكلية نفسها مبنية على “الحوسبة” وليس “البرمجة”. لهذا السبب اسمها “كلية الحاسبات والمعلومات” وليس “كلية البرمجة والذكاء الاصطناعي”. البرمجة والذكاء الاصطناعي هي مجالات فرعية ضمن الحوسبة.

الحوسبة هي كل مجالات الكمبيوتر، أي علوم الكمبيوتر بأكملها. لكي نفهم هذا، سنجد أن هناك مجالات عمل كثيرة جدًا. سأعرض الآن خمسة من أكبرها من وجهة نظري، وهناك غيرها الكثير.

مجالات العمل الرئيسية في علوم الحاسب

١. هندسة البرمجيات واختبارها (Software Engineering & Testing)

هذا هو المجال الذي يعمل فيه معظم خريجي الحاسبات. يعتمد بشكل كبير جدًا على البرمجة. في هذا المجال، نقوم بتطوير البرمجيات، أي نكتب برامج ونطورها ونختبرها لنقدمها بأفضل صورة ممكنة.

نتيجة لذلك، نجد أن مجال تطوير البرمجيات يحتوي على عدة مسارات، مثل:

يمكن القول إن حوالي 80% من خريجي الحاسبات (وهذا رقم تقديري) يعملون في هذا الجزء فقط. وكما ذكرت، كل مسار من هذه المسارات يحتوي على ثلاث أو أربع وظائف على الأقل.

٢. تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني (IT & Cybersecurity)

قد يكون هذا المجال هو الأقل اعتمادًا على البرمجة. لم أقل إنه سهل، بل قلت إنه لا يحتوي على برمجة كثيرة مقارنة بهندسة البرمجيات. لكنه يتطلب دراسة أمور أخرى مثل الشبكات.

كل تخصص من هذه التخصصات يحتوي على ثلاث أو أربع مجالات فرعية، وكل مجال فرعي به وظائف متعددة.

٣. علم البيانات والذكاء الاصطناعي (Data Science & AI)

هنا نعود إلى البرمجة. هذا المجال يتطلب برمجة، ولكنه يحتاج أيضًا إلى رياضيات وإحصاء وقدرة تحليلية عالية.

٤. البحث والتطوير والحوسبة النظرية (R&D & Theoretical Computing)

البحث والتطوير (R&D) ليس مجالاً بحد ذاته، بل هو مصطلح. معظم الهيئات والشركات لديها قسم للبحث والتطوير. العاملون في هذا القسم لا ينتجون منتجًا نهائيًا أو يقومون بوظيفة روتينية، بل يعملون على تطوير أشياء جديدة غير موجودة.

الحوسبة النظرية (Theoretical Computing): هو مجال أكاديمي يعتمد على الجانب النظري للحوسبة. لا تنتج فيه شيئًا ملموسًا، بل تبتكر طرقًا جديدة للحوسبة.

٥. أنظمة الحاسوب وهندسته (Computer Systems & Architecture)

هؤلاء يعملون على نظام الكمبيوتر نفسه، كيفية تطويره أو تغيير بنيته (Architecture).

ملاحظة: كل مجال من هذه المجالات الخمسة هو عالم كبير بحد ذاته. على سبيل المثال، هندسة البرمجيات فقاعة ضخمة، واختبار البرمجيات فقاعة ضخمة أخرى. وكذلك الحال مع تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني، وعلم البيانات والذكاء الاصطناعي، وهكذا.

ستجد أن المسارات تتداخل في البداية. فمن يبدأ في تكنولوجيا المعلومات أو الأمن السيبراني، لا بد أن يمر على دراسة الشبكات. ومن يبدأ في علم البيانات أو الذكاء الاصطناعي، لا بد أن يمر على الإحصاء ولغة البرمجة بايثون. البداية واحدة، ثم تجد نفسك عند مفترق طرق.

هل يجب أن أتخصص من البداية؟

ستشعر بعبء لأن مجالات الكلية كثيرة جدًا. قد تخاف وتقرر أن تحدد مجالًا واحدًا فقط وتدرسه من السنة الأولى إلى الأخيرة. لكن افترض أنك درست تكنولوجيا المعلومات وتخرجت ولم تجد وظيفة، هل ستعود لدراسة علم البيانات من الصفر لمدة سنتين أو أربع سنوات أخرى؟ هذا ليس منطقيًا.

الصواب هو أن تدرس الأساسيات أولاً. في أول سنتين، كلنا ندرس نفس الأشياء: رياضيات، برمجة، هياكل بيانات وخوارزميات، وحل المشكلات. لا تقلق إذا كانت هذه المسميات غير مألوفة لك، فسيتم شرحها لاحقًا.

بعد أول سنتين، سيكون لديك أساس قوي في معظم المجالات. إذا أردت التخصص في تكنولوجيا المعلومات، يمكنك ذلك. وإذا لم تجد فرصة عمل، يمكنك التحول إلى تخصص آخر بسهولة لأنك ستكون قد قطعت نصف الطريق بالفعل بفضل الأساسيات التي درستها.

هدفك في أول سنتين هو أن تكون قادرًا على دخول أي مسار دون صعوبة، وإذا لم يعجبك، يمكنك العودة وتجربة مسار آخر. جرب! شاهد دورة تدريبية قصيرة عن تطوير المواقع لمدة يومين أو ثلاثة، وستعرف ما يشعر به مطورو المواقع. هل هذا يعجبك أم لا؟

ماذا عن الرياضيات؟

أنا طالب من شعبة العلوم، هل أحتاج إلى الرياضيات؟ كما ذكرت، هناك مجالات لا تحتاج إلى رياضيات بكثرة، ومجالات أخرى تعتمد عليها بشكل كبير مثل الذكاء الاصطناعي وعلم البيانات. لكن معظم المجالات الأخرى تحتوي على رياضيات قليلة لن تحتاجها إلا نادرًا.

وحتى لو كنت من شعبة العلوم وتريد التخصص في الذكاء الاصطناعي، هل الرياضيات عائق؟ لا. في السنة الأولى، ستدرس تقريبًا نفس الرياضيات التي درسها زملاؤك في شعبة الرياضيات. الرياضيات لن تكون صعبة، كل ما تحتاجه هو المذاكرة بجد.

وإذا كنت لا تحب الرياضيات، فربما لم يشرحها لك أحد بشكل صحيح. ابحث على يوتيوب عن “رياضيات حاسبات ومعلومات” وستجد كمية هائلة من الدورات المجانية.

ملاحظة للطلاب من شعبة العلوم: لا تخف من أن يسبقك طلاب شعبة الرياضيات. في كثير من الأحيان، يدخل طالب الرياضيات الكلية وهو يشعر بأنه يعرف كل شيء لأنه درسه من قبل، فيبدأ في الاسترخاء وعدم المذاكرة. وفي نهاية العام، يجد أن طالب العلوم قد تفوق عليه لأنه كان مجتهدًا. بعد السنة الأولى، تتساوى الرؤوس، فكلكم ستكونون قد درستم نفس الأساسيات.

حاسبات أم هندسة؟

نحن لا نقول إن إحدى الكليتين أفضل من الأخرى، بل نقارن بشكل موضوعي بينهما.

الدراسة:

عيوب هندسة (قسم حاسبات):

  1. التنسيق: تنسيق قسم الحاسبات في كليات الهندسة مرتفع جدًا بسبب الإقبال الشديد عليه، مما يجعل دخوله صعبًا ومحفوفًا بالمخاطر.
  2. سنة الإعدادي: تضيع سنة كاملة في دراسة مواد لا علاقة لها بالحاسوب مثل الميكانيكا والرسم الهندسي.
  3. المجتمع: مجتمع كلية الحاسبات أكثر تركيزًا وتخصصًا، فكل الطلاب يهدفون إلى نفس المجال، مما يخلق بيئة تنافسية وتعاونية أفضل.
  4. الأنشطة الطلابية: الأنشطة الطلابية المتعلقة بالحاسوب تكون أكثر كثافة في كلية الحاسبات.

مميزات هندسة (قسم حاسبات):

عيوب حاسبات:

هل يمكنني دراسة البرمجة بشكل مستقل؟

نعم، يمكنك ذلك، وهناك من ينجح في هذا. لكن كلية الحاسبات تؤهلك أكاديميًا وتمنحك فهمًا عميقًا لكيفية عمل الكمبيوتر من الداخل، وهو ما يصعب الحصول عليه من الدورات التدريبية وحدها. وجود خريج حاسبات في مقابلة عمل قد يعطيه الأفضلية عليك، إلا إذا بذلت مجهودًا مضاعفًا وجمعت بين مذاكرة كليتك ودراسة الحاسبات بشكل مكثف، وهو أمر صعب جدًا.

ماذا عن برامج الساعات المعتمدة (Credit Hours)؟

برامج الساعات المعتمدة تقدم تخصصات قد لا تكون موجودة في البرامج العادية، ويكون عدد الطلاب أقل، مما يوفر بيئة تعليمية أفضل للبعض. بعض الجامعات تمنح شهادة مزدوجة. لكن من حيث المحتوى العلمي، خاصة في أول سنتين، فالفروقات ليست كبيرة لدرجة تبرر المبالغ الطائلة التي يتم دفعها.

حقيقة سوق العمل

فكرة أن خريج الحاسبات تتهافت عليه الشركات ويتقاضى آلاف الدولارات فور تخرجه هي فكرة غير حقيقية. مثل أي مجال آخر، إذا تميزت فيه، ستحصل على رواتب مرتفعة. وإذا لم تتميز، ستحصل على راتب عادي. فرص العمل في هذا المجال أفضل من غيره، لكن الوصول إلى المستويات العليا يتطلب عملًا دؤوبًا وتطويرًا مستمرًا للذات.

طبيعة المواد الدراسية

تنقسم المواد في كلية الحاسبات إلى أربعة أقسام:

  1. البرمجة (Software): هذا هو الجزء الأهم والأساسي.
  2. العتاد (Hardware): لفهم كيفية عمل الآلة التي نبرمجها.
  3. الرياضيات والإحصاء: تخدم على البرمجة والذكاء الاصطناعي.
  4. المواد النظرية: لتنمية المهارات غير التقنية، مثل إدارة الأعمال.

هل الدراسة في الكلية كافية؟

بصراحة، لا. مواد الكلية وحدها لن تؤهلك لسوق العمل، تمامًا كما أن الدورات التدريبية وحدها لن تفعل ذلك. تحتاج إلى التوفيق بين الاثنين: التركيز على مواد الكلية للحصول على أساس علمي قوي وشهادة بتقدير جيد، والتركيز على الدورات التدريبية لتعلم أحدث التقنيات والأدوات وبناء المشاريع. هذا هو مصدر الضغط الحقيقي في كلية الحاسبات.

ماذا لو لم أتمكن من الالتحاق بكلية الحاسبات؟

لديك بدائل كثيرة:

في كل الأحوال، ستحتاج إلى أخذ دورات تدريبية. الفرق يكمن في أن شهادتك سيكون مكتوبًا فيها “حاسبات ومعلومات”، وهو ما قد يمثل ميزة.

التعلم الذاتي والأنشطة الطلابية

التعلم الذاتي (Self-Learning):

الأنشطة الطلابية (Student Activities): لا تضيع وقتك! في سنتك الأولى، أنت بحاجة ماسة إلى المهارات الناعمة (Soft Skills).

أهمية الأساسيات وحل المشكلات

الأساسيات (Basics): هي أساسيات البرمجة. تعلم لغة برمجة واحدة وافهم مفاهيمها الأساسية جيدًا. هذه المفاهيم (Concepts) موجودة في كل لغات البرمجة تقريبًا. إذا أتقنتها، يمكنك تعلم أي تكنولوجيا جديدة بسهولة.

حل المشكلات (Problem Solving):

نصائح أخيرة

أخيرًا، الكلية التي ستلتحق بها هي الخيار الأفضل لك. كن متفائلاً بأنك مقبل على أيام جيدة، قد تكون مليئة بالتعب والجهد، لكنها ستكون مثمرة.

شارك المقال

أحدث المقالات

CONNECTED
ONLINE: ...
SECURE
00:00:00